منهج التنمية المستدامة جمع بين محمد وإيمان.. حكاية حب بدأت من عشق التراث

المهندس محمد سعفان مع زوجته إيمان العلي 
المهندس محمد سعفان مع زوجته إيمان العلي 

في ضاحية المعادي القديمة على الضفة الشرقية لنهر النيل جنوبي القاهرة العاصمة المصرية، تقع فيلا بنيت في عشرينيات القرن منذ ما يزيد على مائة عام، وجدنا فيها قصة حب غريبة جمعت المهندس المصري محمد سعفان مع زوجته العراقية النرويجية إيمان العلي، عندما التقيا للمرة الأولى منذ 10 أعوام، مع أن لكل منهما اتجاهات دراسية واجتماعية وثقافية مختلفة عن الآخر.. فإيمان عاشت في النرويج مع والدتها، ثم انتقلت وهي بنت 19 عاماً لتدرس السياسة والاقتصاد في أميركا، أما محمد فقد درس هندسة الطيران واشتغل بها 7 أعوام قبل أن تجمعه المصادفة بإيمان، ليجد فيها رؤى مشتركة من حب للحضارة والتراث والقيم المستدامة، فتزوجا، وترك كل منهما مجال دراسته، وانطلقا لإحياء القديم ليتلاءم مع الحاضر والمستقبل. سيدتي التقت الزوجين وحاورتهما لنتعرف عن قرب إلى تلك الحكاية.

تنسيق : ساره مرتضى 
حوار : مصطفى عبد العال 
تصوير : يحيي العلايلي 


محمد سعفان وإيمان العلي

المهندس محمد سعفان مع زوجته إيمان العلي


بدأ المهندس محمد سعفان الحديث عن حياته قائلاً: كان والدي محاسباً في أحد مصانع الغزل والنسيج، وكانت أمنيته مثل أغلب المصريين أن يصبح ابنه مهندساً أو يحمل لقب طبيب، واخترت هندسة الطيران، وعملت في هذا المجال لمدة 7 أعوام، حتى غيرت مجال عملي إلى مجال آخر مختلف تماماً، وهو التطوير العقاري الذي اشتغلت به مطلع عام 2017.
هل ترغبين بالتعرف على دمشق مدينة تلتقي فيها الحضارات بعيون فتاتِها آية الماغوط


مصادفة وتناغم مدهش


يضيف محمد: تقابلت مع إيمان منذ 10 أعوام، مصادفة عن طريق صديق مشترك، ولمسنا اتفاقناً مدهشاً وجميلاً ومثيراً بيننا، فكلانا عاشق للتراث في القاهرة القديمة، بما فيها من فنون العمارة الإسلامية والرومانية والفرعونية، وعندما وافقنا علي الخطوبة كان بحثنا عن منزل في منطقة الجمالية التراثية للعيش فيه، التي كانت تستهويني منذ طفولتي، بما فيها من بيوت ومساجد ذات طرز معمارية متميزة.
وهنا قاطعته زوجته إيمان التي تتحدث الإنجليزية وتفهم العربية قائلة: «وجدنا أن هناك صعوبة بالغة في العيش في مثل عبق الأماكن التاريخية التي كانت تستهويني في زياراتي للقاهرة بصفتي سائحة، خاصة في حال وجود أطفال يصعب العيش بطريقة تناسب حاجاتهم المعيشية والمدرسية وغيرها، وهي أمور لم تكن تبدو واضحة في بداية الأمر، لذلك قررنا أن نتجه إلى مكان آخر يكون مناسباً لأجل أولادنا، ويحمل في الوقت ذاته مسحة من التراث الذي هو حبنا المشترك».

ʼ تطوير البيوت يأتي مع المعيشة فيها وليس قبل الزواج كما يفعل الكثيرونʻ
المهندس محمد سعفان


حب التاريخ والآثار


سألنا إيمان: هل كانت حياتك مرتبطة بعمل يتعلق بالتراث المعماري؟


أجابت: لا بالعكس، فقد عشت في النرويج مع والدتي، وكان والدي عراقياً يعيش في مكان آخر بحكم العمل، وتمنيت أن أعيش أو أشاهد حضارة العراق التي سمعت عنها قصصاً وروايات كثيرة، ولكن للأسف لم أستطع ذلك؛ إذ انتقلت في سن التاسعة عشر إلى الولايات المتحدة الأميركية، والتحقت بجامعة ميشيغان، ودرست الاقتصاد والعلوم السياسية، وكان اهتمامي حينذاك هو أن أكمل المجال في السلك الجامعي بالماجستير والدكتوراه، بهدف التدريس في الجامعة هناك، لكن تغيرت اهتماماتي أثناء الدراسة بالسنة النهائية لحب التاريخ والآثار، ثم عندما التقيت محمد في القاهرة ووجدت أن بيننا عوامل مشتركة من الحب والاهتمامات ذاتها.


توجهنا بسؤالنا إلى محمد: كيف بدأت أول خطوة في مجال التطوير العقاري؟


أنا اهتمامي منحصر في البيوت التراثية، وأساس عمل المطور العقاري هو استحواذك على عقار قديم تقوم بتطويره ليصبح منتجاً جديداً، لذلك فنحن نعمل على تهيئة المباني التراثية للاستخدامات الحديثة المعاصرة، ومصدر إلهامنا في ذلك التطوير الاستعانة بالعديد من الكتب والدراسات المتخصصة، ولدينا المكتبة الخاصة بنا التي تضم عشرات المراجع والأبحاث في هذا المجال، إضافة إلى موهبتنا أنا وإيمان، وبجانب ذلك الدراسة الأكاديمية في التصميم.
ما رأيك بالتعرف على منزل ضيافة بين أشجار الزيتون والصنوبر


مخاطرة ناجحة

 


ماذا تعني بالموهبة؟


الموهبة في انتقاء العقارات التراثية التي تصلح للتطوير وتنفيذ الاستحواذ بشكل قانوني صحيح، فهي حلقات لا بد من توافرها عند دخول هذا المجال، ولا يصلح العمل في هذا المجال من دونها، وقد كان لدينا صديق يمتلك شقة تراثية في وسط القاهرة الخديوية، وخلال قيامه بأعمال الديكورات قرر الهجرة، فاتفقت مع إيمان على استكمال ديكورات الشقة في الوقت الذي حصلت فيه على منحة دراسية في أميركا لمدة 6 شهور، وتأجلت قبل السفر بيومين لمرض ابنتي، وألغيت المنحة الدراسية، وبدأنا مشروع أول أحلامنا وسط القاهرة من دون سابق خبرة أو معرفة، وكانت فرصة للتعلم، ولكنها مكلفة جداً؛ لأنك تقوم بالإنفاق من دون علم أو دراسة، وكأنك تسبح في أمواج مجهولة، ولكن بفضل الله والنوايا الصادقة في عمل شيء جيد وحبنا للتراث المعماري، كلها أمور كانت بمنزلة حافز وفرصة تعليمية كبيرة جداً.


ماذا تعني رؤيتك للتنمية المستدامة في مجال عملك، وكيف استفدت بها في منزلك؟


أن تحافظ على البيئة، وتحاول استخدام كل ما هو متاح وطبيعي من دون استنزاف للموارد المالية أو الطبيعية أو البشرية، فليس هناك مجال لاستهلاك أي قطعة خشب صغيرة بمنزلنا أو مواد بناء، ونعيد استخدام القديمة الموجودة، وهذا ينطبق على الموبيليا والمفروشات، والهدف من تطوير البيوت القديمة هو أنك تعيد ترميمها لتكون صالحة للاستمرار في الحياة، وتمنحها فرصة جديدة، هذا أفضل من أجل الحفاظ علي الهوية البصرية للمدينة، فليس من الجمال أن تتحول المدن إلى ناطحات عملاقة وكتل خرسانية تحجب عنك جمال الطبيعة الذي أصبح نادراً ما تجده حالياً، فمثلاً الستائر التي استخدمت كانت من القطن الموصلي نسبة إلى مدينة الموصل، وهو نوع من القماش يسمح بمرور الهواء الرطب من دون الحرارة، ويحجب ضوء الشمس القوي، وهو قطن طبيعي.

ʼ البيوت القديمة صالحة للعيش المستدام أفضل من الحديثةʻ
إيمان العلي


البيوت القديمة والاستدامة


تتدخل إيمان لتعلق على التنمية المستدامة قائلة: «النقطة الأساسية هي الحفاظ على التراث؛ حيث يدرك الناس أهمية هذه المباني أو البيوت القديمة والقيمة التي تحتفظ بها، فهي أماكن صالحة للسكن والعيش، وتلائم صحياً المناخ الحالي، فالمنزل الذي نسكنه يدخله الهواء، والشرفات الزجاجية تجعل استهلاك الإضاءة الكهربائية أقل، ومعظم الأوقات لا نقوم بتشغيل أجهزة التكييف، وهذا ينعكس على الاقتصاد؛ حيث نستهلك كهرباء أقل، وعلى البيئة؛ حيث بصمة كربون أيضاً أقل، ولذلك فإن البيت القديم صالح لاستمرارية الحياة فيه، والذين بنوا هذه البنايات شيدوها للربحية ولأجل استدامة الحياة، فالهندسة إجراء عملي، أما المعمار فيهتم بجودة الحياة».


كيف وقع اختيارك لهذا البيت، وما التعديلات التي أجريت عليه؟


يجيب محمد سعفان: «يعتقد بعض الناس أننا نمتلك هذا المكان، وقد تكون مفاجأة إذا قلت إن المكان مملوك لآخرين، وكان بحالة يرثى لها، عبارة عن جدران بنيت منذ ما يزيد على مائة عام تقريباً، وتفاوضت معهم على أن أقوم باستئجاره مقابل مبلغ زهيد جداً.. مساحة البيت 300 متر مربع نصفها مباني، والنصف الآخر أشجار وحديقة ومكان يضم ألعاباً للأطفال. كان أغلب الأخشاب والمواد من مخلفات هدم بيوت قديمة وبعض الأنتيكات والقطع والأثاث من أسواق شعبية، ثم نعيد صياغتها بشكل يتلاءم مع هوية المكان الجديدة، خاصة أننا لسنا أثرياء لنقوم بشراء الأنتيكات باهظة الثمن، ليس لدينا مبدأ إلقاء القديم في سلة المهملات، بل إعادة إحيائها مرة أخرى، حتى بقايا أقمشة التنجيد أو ملابسنا البالية والأقمشة المستخدمة في تعليق زينة رمضان مثلاً، فقد عاش أجدادنا على ذلك منذ آلاف السنين، بينما بصمتنا الكربونية حالياً كبيرة ونحتاج إلى تقليلها بعدم الاستمرار بالهدر الذي نقوم به حالياً».
يمكنك أيضًا الاطلاع على الكشف عن مدينة عراقية قديمة بسبب الجفاف


متحف صغير


عن المنزل تقول إيمان: «تم تجميع كل ما هو موجود من نيش وغرف سفرة وجلوس وطاولات جانبية من قطع من صعيد مصر، إضافة إلى الأحواض الرخامية القديمة، وفرن البيتزا، وكذلك الصينية النحاسية التي اشتريناها من منطقة النحاسين الأثرية، وفيها قصة منقوشة بأجوائها تستطيع قراءتها، فأي شيء في المنزل لا بد أن يكون من صنعك، وليس بتأثير شيء رأيته في مجلة أو غير ذلك، لكي ينشأ حوار بينك وبينه, وتخلق حكايات بينك وبينه، فتفاصيل منزلك لا بد أن تحمل معاني وليست مجرد قطع موضوعة في المكان فقط، فالقطع الموجودة في المنزل ليس لزاماً أن تكون نادرة أو غالية الثمن، لكنك تسطيع أن توظف أي قطعة معجب بها اشتريتها أو تلقيتها من صديق أو فرد من العائلة».
وتضيف: «عندما تتجول في هذا المنزل الصغير تشعر وكأنك في القاهرة بما فيها من تراث متنوع إيطالي، وفرنسي، وإنجليزي.. فالبيت أشبه بمتحف صغير».


عندما تقوم بتطوير منزل لأحد العملاء تعكس فيها رؤيتك أم شخصية العميل؟


يجيب محمد: «أنا نادراً ما أعمل لحساب عميل؛ لأنه لا بد للذي أعمل معه أن يكون متوافقاً تماماً معي في الرؤية ومع مبدأ الاستدامة والحفاظ على التراث وتطويره، لكن مع إدخال الأشياء الموجودة في المكان مع مستلزمات الحياة، وإعادة توظيفها في التصميمات، فأنا أطور منازل تراثية فقط، وأستقبل فيها الضيوف، وتأجير الراغبين في السكن أو العيش ضمن منظومة التنمية أو بيئة مستدامة؛ بمعنى أن يرى الجمال برؤيتنا». وعن صعوبات العمل يقول: «التعامل مع العمال وشراء الخامات والإنفاق المستمر والكثير بهدف التجربة والخروج بأفضل منتج كلها أمور صعبة، ففي شقة وسط البلد التي شهدت البدايات الأولى، والتي تعدّ أول محطة في مشروع التطوير التراثي العقاري، أنفقت كل ما لدي، وعندما وضعت الشقة على موقع Airbnb، كان هذا تكليل للنجاح، فالناس الآن قد لا يفضلون الإقامة في فنادق باهظة أو مكلفة ويذهبون لاستئجار شقة أو منزل يحاكي طبيعة البلد الذي يزورونه، فهذا يشعرهم بالراحة النفسية أكثر».


سألت إيمان: ماذا عن بناتك؟


لدينا فتاتان الأولى مويا عمرها 7 سنوات، وهو اسم قديم من القرن الرابع، وزها عمرها 4 سنوات تيمناً بالمعمارية العراقية زها حديد.


ما النصيحة للمقبل على تأثيث أو تطوير أو بناء بيت؟


المنزل الذي يضم العائلة يأخذ وقتاً كبيراً لكي يتم بناؤه، فأغلب العرائس والعرسان يريدون الانتهاء من تجهيز منازلهم قبل الزواج، وهذه الرؤية غير صحيحة، فمنزل الأسرة يتكون مع ممارسة الحياة فيه، وكل يوم تشعر بأنك ترغب في تعديل جديد، والمعيشة هي التي تخلق التطوير والاستدامة.
يمكنك أيضًا متابعة اللقاء على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط محمد وإيمان حكاية حب بدأت من عشق التراث