بدأت ضي رحمي بترجمة مؤلفات سياسية واقتصادية، لكنها بعد أن تخرجت في كلية الآداب قسم ترجمة اللغة الإنجليزية، انتقلت للترجمة الأدبية على نطاق ضيق، ترجمت بعض المقالات التي تعرض لروايات ما، أما الشعر فشرعت في ترجمته بعد فترة بتشجيع ممن حولها، ترجمت ضي رحمي لشعراء مميزين مثل: “مايا أنغيلو، أوكتافيو باث، أوغدن ناش، سارة تيسدال، فيكرام سيت، آنا أخماتوفا، تشارلز وايلز، سيلفيا بلاث، فيسوافا شيمبورسكا، آنا سفير، تشارلز بوكوفسكي، بابلو نيرودا”.
بمناسبة اليوم العالمي للترجمة، الذي يصادف 30 سبتمبر، التقتها سيدتي، للتعرف إلى عوالم الترجمة، وأثرها في بناء الهوية الثقافية للشعوب.
إعداد: لينا الحوراني
دخلت ضي، من مصر، عالم الترجمة من باب الهواية وحبها العميق للشعر. ومع الوقت تحولت هذه الهواية إلى مسار أوسع. كما تقول وتتابع: "الترجمة بالنسبة لي لم تكن يوماً مجرد نقل كلمات، بل فعل إبداعي يمنح النص حياة أخرى وامتداداً مختلفاً. فالنص المترجم لا يعيش في فراغ، بل في سياق ثقافي جديد، والمترجم يوازن دائماً بين الأمانة للنص الأصلي وبين حاجته لتأصيله في بيئة مختلفة. لهذا أؤمن أن الترجمة هي بالفعل إعادة خلق للنص. الترجمة من اللغات الصغيرة أو المهددة بالاندثار هي فعل مقاومة ثقافية يمنحها صوتاً في العالم. حين تنتقل نصوصها إلى لغات أخرى، تتحول من ثقافة محلية صامتة إلى ثقافة مرئية ومسموعة، وتصبح جزءاً من الحوار الإنساني الواسع. إنها طريقة لإنقاذ الذاكرة الجماعية من النسيان، وإبراز ما تختزنه هذه الشعوب من حكم وأساطير وتجارب إنسانية. فالترجمة من هذه اللغات لا تحفظها وحسب، بل تفتح أمامها أبواب الاعتراف والانتشار، وتؤكد أن لكل لغة، مهما بدا حجمها صغيراً، ما يستحق أن يروى للعالم.
يوازن المترجم دائماً بين الأمانة للنص الأصلي وبين حاجته لتأصيله في بيئة مختلفة
خيانة النص في فرض الذات
ترى ضي أن المترجم مؤلف ثانٍ بالمعنى الإبداعي، لكنه ليس منافساً للمؤلف. المترجم يفسر النص ويعيد تشكيله بأدوات جديدة، مع الحفاظ على نبرته وروحه. وعمّا إذا كان هناك نص مستحيل الترجمة.
تستدرك ضي: "لا أؤمن بوجود نص مستحيل الترجمة، لكن هناك نصوص صعبة للغاية، تقاوم الانتقال من لغة إلى أخرى. أكثرها تحدياً الشعر والأمثال والنكات والألعاب اللغوية، لأنها ترتبط بإيقاع خاص ومرجعيات ثقافية يصعب نقلها حرفياً. ما قد يُفقد أحياناً هو الموسيقى الداخلية أو الإيحاء الثقافي، وهنا يظهر دور المترجم في ابتكار حلول تعويضية تقارب المعنى قدر الإمكان".
الحس الإنساني

تطرقت ضي إلى الترجمة الفورية، وإمكانية أن تحل مكان المترجم البشري يوماً ما، وعن هذا تقول: "الترجمة الآلية مفيدة في السرعة وتبسيط الوصول إلى النصوص، بل تتفوق أحياناً في الدقة التقنية. لكنها تظل قاصرة عن التقاط النبرة، والبعد الثقافي، وما بين السطور من مجازات وإيحاءات. الترجمة البشرية تضيف الحس الإنساني الذي لا يمكن لأية خوارزمية محاكاته. أرى أن المستقبل سيكون للتعايش لا للإلغاء، يستعين المترجم بالتكنولوجيا كأداة مساعدة، لا كبديل، كما يستعين المصور بالكاميرا الرقمية لكنه يظل صاحب العين الفنية، وأنا عن نفسي أتعامل مع التكنولوجيا بوصفها وسيلة مساعدة، أستفيد منها في البحث وتوحيد المصطلحات وتسريع بعض المراحل، لكنها لا تغني عن اللمسة الإنسانية في الفهم والتأويل. التكنولوجيا تعطي القالب، أما الروح فتبقى للمترجم.
لا أؤمن بوجود نص مستحيل الترجمة، لكن هناك نصوص صعبة للغاية، تقاوم الانتقال
وعن النص الذي غيّر ضي أثناء ترجمته، تتابع قائلة: "النصوص النفسية التأملية غالباً ما تترك أثراً عميقاً في داخلي، لأنها تجبر المترجم على إعادة التفكير في مفاهيمه الخاصة. أحد النصوص التي أثرت فيّ بعمق كان للشاعرة الأمريكية ويتني هانسون، نشرته على صفحتي في فيسبوك، يتحدث عن العلاقة بين الترتيب الداخلي والفوضى الخارجية، وكيف يمنحنا التنظيم شعوراً بالسيطرة على حياتنا. أثناء ترجمته شعرت أنني أعيد اكتشاف ذاتي مع كل جملة.
"التنظيف يشعرني بالسيطرة
كأن تحكمي في المساحة من حولي
يعيد - بطريقة ما - ترتيب المكسور داخلي
كما لو أن إزالتي لبقع المرآة
سوف توضح الأمور كلها التي تأكلني حية
هل أبالغ عندما أقول: إن طي الجوارب يسهل التنفس؟
المفارقة هي،
أحب أن يكون كل شيء في مكانه
وفي الوقت نفسه
أشعر ألا مكان لي هنا." ويتني هانسون.
لكن الأثر لا يتوقف هنا؛ فالنصوص التي تتناول التعقيدات النفسية تضع المترجم في مواجهة مباشرة مع هشاشة الإنسان وجراحه الخفية. عند ترجمة هذه الأعمال أشعر أنني أسير في ممرات داخلية مظلمة، أفتش فيها عن لغة قادرة على نقل الألم والمعاناة من دون أن تفقد صدقها أو حساسيتها. مثل هذه التجارب تذكرني دائماً بأن الترجمة ليست مهنة فحسب، بل رحلة وجودية يتقاطع فيها الأدب مع النفس البشرية في أكثر حالاتها رهافة وعمقاً.
"ارتداء ملابس أكبر بثلاثة مقاسات
فقدان عشرين رطلًا من وزني والسخرية من الأمر
إثارة خوف أمي
شراء تذاكر طيران بكل ما أملك من أموال
البكاء في قسم المشروبات الغازية بمحل البقالة
التخطيط لأمور كثيرة.. ثم التراجع عنها كلها
النوم خمس ساعات وسط النهار
إحكام الستائر على النوافذ
نسيان فيما استخدام واقي الشمس
مراسلة الأساتذة إليكترونياً بشأن الغياب
القيادة حتى الجبل، من دون صعوده
الكثير جداً من القهوة
البلوزة نفسها لأسابيع.. ثم فجأة أخرى جديدة." وصف الاكتئاب – فورتيسا لاتيفي.
التحدي الأكبر

تحدثت ضي عن يوم الترجمة العالمي، فهو بالنسبة لها ليس مجرد احتفال مهني، بل لحظة اعتراف عالمي بأن الترجمة فعل حضاري يضمن التواصل بين الشعوب. تستطرد قائلة: "في هذا اليوم أشعر أنني جزء من سلسلة إنسانية ممتدة، أتأمل النصوص التي عبرت من خلالي، تلك التي شكلتني بقدر ما أسهمت في صياغتها بالعربية، فأدرك أن المترجم لا ينقل الكلمات فقط، بل يترك جزءاً من روحه في كل نص، ويحمل شيئاً من روحه معه في المقابل.
ترى ضي، أن أصعب موقف يقع فيه المترجم دائماً حين مواجهة عبارات محملة بدلالات محلية أو صور لغوية لا نظير لها في العربية. تستدرك قائلة: "هنا يكون التحدي: هل أشرح؟ هل أبسط؟ أم أبتكر صيغة جديدة تحافظ على الروح؟ هذه المواقف تختبر قدرة المترجم على التوازن بين الأمانة والإبداع.
التكنولوجيا لا تغني عن اللمسة الإنسانية في الفهم والتأويل. فهي تعطي القالب، أما الروح فتبقى للمترجم
مؤسسة الإمارات للآداب
أسهمت مؤسسة الإمارات للآداب، كما ترى ضي، في ترسيخ مكانة الترجمة كجزء أساسي من المشهد الثقافي في المنطقة، عبر مبادراتها الداعمة للمترجمين وبرامجها التي تشجع على نقل الأدب بين اللغات. وفرت فضاءات للحوار والتدريب، وفتحت المجال أمام المترجمين للتعريف بأعمالهم وتبادل الخبرات. الأهم من ذلك أنها ساعدت على رفع الوعي المجتمعي بأهمية الترجمة، ليس فقط كأداة معرفية، بل كجسر حضاري يربط القراء العرب بالعالم ويجعل صوت المنطقة حاضراً بلغات أخرى.
أما عن مشاريعها القادمة في الترجمة، فقد انتهت مؤخراً من ترجمة ثلاث روايات بالتعاون مع دار عصير الكتب المصرية، وعنها تقول: "ستصدر أولها في يناير المقبل، تليها بقية الأعمال تباعاً. في هذه المرحلة أركز على الأدب الروائي، لكنني أتطلع أيضاً لترجمة كتب في علم النفس والتاريخ، لما لهما من قيمة معرفية وأثر مباشر على القارئ".