في عالم يتغيّر بوتيرة متسارعة، يجد الشباب أنفسهم أمام تحدٍّ كبير مع اقتراب نهاية المرحلة الثانوية: اختيار التخصص الجامعي المناسب. فلم تعد الجامعات اليوم مجرد مؤسسات تعليمية تمنح شهادات، بل أصبحت منصات تُشكّل هوية الفرد، وتفتح له آفاق المستقبل المهني والاجتماعي.
ومع هذا التحوّل، تتسع الخيارات أمام الطالب، وتتداخل التخصصات، وتظهر مجالات جديدة لم تكن معروفة في السابق مثل: الذكاء الاصطناعي، علوم البيانات، ريادة الأعمال، التصميم المستدام وغيرها.
هذه الوفرة، وإن كانت تحمل في ظاهرها الحرية والفرص؛ إلا أنها غالباً ما تُربك الطالب وتضعه في حالة من القلق والتردد:
هل أختار ما أحب.. أم ما يُحقق دخلاً جيداً؟
هل أُرضي ذاتي.. أم أُرضي توقعات عائلتي؟
ماذا لو ندمت لاحقاً على اختياري؟
ماذا لو لم أكن "جيداً بما فيه الكفاية" في المجال الذي اخترته؟
تتزايد هذه الأسئلة في ظل نقص التوجيه الفعّال، وضغوط المجتمع، والرسائل المتناقضة من البيئة المحيطة، ما يُحوّل هذا القرار المصيري إلى عبء نفسي وفكري على كاهل الشباب.
في مثل هذا السياق، يصبح من الضروري أن نسلّط الضوء على كيفية اتخاذ قرار واعٍ ومدروس بشأن التخصص الجامعي — قرار ينطلق من الذات، لا من الخارج؛ من الاهتمامات الشخصية، والقيم، ونقاط القوة، لا من القوالب الجاهزة.
فاختيار التخصص ليس مجرد خطوة أكاديمية، بل هو جزء من رحلة بناء الهوية، وتحقيق الذات، وفتح أبواب المستقبل. ساندرا اللقيس – مدربة حياة ومختصة في الصحة النفسية تشرح لـ"سيدتي" كل التفاصيل.
وجهة نظر أهل الاختصاص

تقول مدربة الحياة واختصاصية الصحة النفسية ساندرا اللقيس:" كل عام، يواجه آلاف المراهقين أحد أكبر القرارات في حياتهم المبكرة: اختيار التخصص الجامعي.
قرار يحمل بين طياته الحماس والقلق، ويُرافقه ضغط خفي من المجتمع، وأحياناً، دون قصد، منّا كأهل."
وتضيف: كمدربة حياة واختصاصية في الصحة النفسية، وأيضاً كأمٍّ رافقت ابنتها الكبرى إلى الجامعة هذا العام، وتُحضّر الأخرى للالتحاق بها العام المقبل، عايشت هذه المرحلة من كل الزوايا: العاطفية، العملية، والإنسانية.
ما رأيك متابعة أفضل الكتب التي يجب أن يقرأها الطالب الجامعي
مفارقة الاختيار
تعتبر اللقيس أن "جيل اليوم يملك وصولاً إلى عدد هائل من الخيارات. وظائف لم تكن موجودة قبل عشر سنوات، أصبحت الآن مطلوبة ومزدهرة: التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، التفكير التصميمي، الاستدامة.. العالم يتغير أسرع من أنظمة التوجيه التي صُممت لإعداد شبابنا. هذا التنوع، ورغم كونه مُمكِّناً، إلا أنه يُسبب أحياناً الحيرة وفقدان الثقة بالنفس".
كثير من المراهقين يسألون:
"ماذا لو اخترت التخصص الخطأ؟". لكن الحقيقة هي: لا يوجد خيار خاطئ عندما يكون القرار مبنيّاً على الوعي، الفضول، والقيم.
من الضغط إلى الهدف
وترى اللقيس أنه "من أبرز التحديات التي تلاحظها خلال جلسات التوجيه هي ثقل التوقعات، من العائلة، الأصدقاء، أو المعايير الثقافية. كثير من الطلاب يشعرون أنهم عالقون بين ما يحبونه، وما يظنون أنه سيُرضي أهلهم، أو يُؤمن لهم مستقبلاً مالياً آمناً"، مضيفة: "ونحن كأهل، قد نُسقط أحياناً أحلامنا غير المُحققة على أولادنا دون أن ننتبه. (وهذا طبيعي، لأنه نابع من الحب.)
لكن من أهم ما يمكن أن نقدمه لهم، هو أن نتذكر أن طريقهم هو لهم، واختياراتهم تعكس منْ هم بصدد أن يصبحوا، لا ما كنا نأمل نحن أن نكون".
كيف نساعدهم على اتخاذ قرارات واعية؟

وتقترح اللقيس بعض الخطوات التي تُسهم في جعل هذا القرار أقل توتراً وأكثر وعياً:
ابدأ بالوعي الذاتي
شجّعهم على استكشاف اهتماماتهم، نقاط قوتهم، وقيمهم قبل البحث عن الجامعات.
تمرين بسيط أستخدمه مع الشباب:
ما الأنشطة التي تجعلك تنسى الوقت عند القيام بها؟
استكشاف بدون تصنيف
- دعهم يُجربوا مرافقة محترفين، أو حضور ورش عمل، أو القيام باختبارات الميول والشخصية.
- التجربة تُولد الوضوح.
ناقش الهدف، لا المهنة فقط
- ما الأثر الذي يرغبون في تركه؟ ما نوع الحياة التي يتخيلونها؟
- الشهادة ليست مجرد عنوان وظيفي، بل هي جسر نحو المعنى.
طَبِّع فكرة التغيير
- كثير من البالغين يُغيرون مساراتهم المهنية أكثر من مرة.
- أول اختيار ليس حكماً نهائياً.
علّمهم المرونة، لا الخوف
- ادعم، لا تُوجه
- كُن لهم بوصلة، لا سائقاً.
- اسأل، استمع، وامنحهم الثقة بأنهم قادرون على إيجاد طريقهم.
كلمة أخيرة للأهل
- مراقبة أولادنا وهم يكبرون هي من أعظم مباهج الحياة.. وتحدياتها.
- نرغب في حمايتهم، لكنهم بحاجة إلى أن يخوضوا، ويتعثروا، وينهضوا بأنفسهم.
ما تعلمته كمدربة وكأمّ هو أن أفضل هدية يمكن أن نقدمها لهم هي الثقة بقدرتهم على الاختيار.
لأنه في يومٍ ما، سيسألهم العالم:
"منْ أنت؟"
وأتمنى أن تكون إجابتهم حينها ليست بلقب وظيفي، بل بالصدق والاتساق مع ذاتهم.
يمكنك الاطلاع على ابنك المراهق على أعتاب الجامعة: دليل لاختيار التخصص وأهمية توجيهات الآباء