د. سعد الدين هلالي لـ«سيدتي»

انتشرت برامج الفتاوى في الفضائيات، وأصبحنا نرى المفتين غير المتخصصين، وهو ما يثير الكثير من الجدل حول فتواهم. فكيف نتصدى لمثل هؤلاء؟

أنا أرى أن الخلاف الفقهي سعة ورحمة من الله، ولأن الإعلام قائم على جذب المشاهدين، فمن الطبيعي أن يلجأ للأطروحات التي تثير الجدل، كي تجذب الانتباه، سواء في المجال الديني أو السياسي أو الاجتماعي، لاسيما أن القضايا المستجدة جميعها محل جدل ومثار خلاف فقهي بين العلماء. وهذه ظاهرة إيجابية؛ لأن المسألة فيها تعددية، وهذا في مصلحة المسلم، غير أنني أتحفظ على نقطة، وهي أنه على من يتصدى للفتوى أن يتقي الله، ويبين الأوجه الفقهية المختلفة حول القضية المثارة، ولا يذكر الوجه الواحد الذي يعرفه فقط، وهنا في هذه الحالة إذا كان يجهل الوجه الآخر فلا يصلح أن يكون مفتيًا، فكيف له أن يعلمني وهو غير عالم! أما إذا كان يعلم الآراء الأخرى التي تخالف وجهة نظره ولا يستعرضها، فإنه في هذه الحالة يكون خائنًا للأمانة؛ لأنه قرأ في كتب الفقه أكثر من رأي، وأخفى بعضها، وصرح بالآخر، وأنا أناشد كل من يتصدى للفتوى على الفضائيات أن يكون أمينًا، فيعرض الآراء من كافة جوانبها؛ لأن إخفاءها تضليل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من علم علمًا فكتمه ألجمه الله بلجام من نار». كما قال تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ». فيجب ألا نحجر على الشخص بقول واحد، بل نعرض عليه الآراء، وهو يختار لنفسه ما يناسبه من فتوى من بين اجتهادات الفقهاء؛ لأنهم أئمة ولهم أدلتهم، وعلى وسائل الإعلام المختلفة عرض البرامج الهادفة التي تنشر القيم الخلقية بين شبابنا ونسائنا وشيوخنا، لاسيما أن المجتمع متعطش للبرامج الدينية التي تزيد الجرعة الإيمانية لدى الناس؛ لذا عليها انتقاء المواد الإعلامية التي تعتمد على الوسطية في الطرح.

إذن نشر مبدأ الوسطية هو مسؤولية الإعلام؟

نعم إلى جانب مؤسسات التعليم المختلفة بما تحويه من مدرسين وموجهين وغيرهم، فجميع هؤلاء بالإضافة إلى الإعلاميين يؤثرون في المجتمع بما ينشرونه من مفاهيم، من خلال سلوكياتهم وموادهم الدراسية والدرامية والثقافية وغيرها. ونحن الآن أحوج ما نكون لنشر مبدأ الوسطية في تعاملاتنا مع الآخر، خاصة في ظل التحديات التي تعصف بالأمة، وتريد أن تنال من وحدتها.

 

الزواج الصحيح

تعددت صور الزواج في بلادنا العربية، وحملت أسماء كثيرة اختلف حولها العلماء، فما هي أهم شروط الزواج الصحيح؟ وهل يجوز للولي أن يضيف شروطًا معينة في عقد النكاح؟

يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح بغير ولي وشاهدي عدل»، إذن يشترط لصحة النكاح أن يكون هناك وليٌّ وشاهدا عدل، على أن يكون الشاهد من أهل العدالة والصدق. كما يجوز للولي إضافة شروط معينة في العقد، فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام: «المسلمون عند شروطهم»، وقد اشترط الإمام مالك «العلانية» لصحة عقد الزواج، ولم يكتف بالشاهديْن فقط؛ لأن العلانية تمنع شبهة السفاح أو الزواج الصوري، كما يشترط أيضًا لصحة الزواج أن يكون مطلقًا عن الزمن، فلا يقيد بمدة معينة، وإلا أصبح باطلاً، حيث إن الزواج شرع للسكن والمودة والاستقرار.

هناك بعض المجتمعات تشترط مبدأ التكافؤ لصحة الزواج.. فما رأيك؟

اختلف الفقهاء في معنى التكافؤ، هل هو على أساس ديني أم اجتماعي؟ فبعض الأئمة يرى أن التكافؤ يجب أن يكون في الجانب الاجتماعي والديني معًا، بينما يرى البعض الآخر أنه يجب أن يكون في الجانب الديني فقط. غير أنهم جميعًا اتفقوا على أن التكافؤ يكون لصالح الزوجة أكثر من الزوج؛ ذلك كونها لا تملك حق الطلاق بيدها، وبالتالي فإن شرط الكفاءة يناسبها في بادئ الأمر.

ما رأيكم في زواج القاصرات؟

أقول لولي الأمر: اتق الله في ابنتك. فهذا تفريط في الأمانة، ويكون في حكم من دفع ابنته إلى الهلاك. وكل الزيجات التي كانت من هذا النوع باءت بالفشل، وتسببت في وجود أسر مفككة وأطفال مشردين؛ لذا قام ولي الأمر العام في بعض الدول بتحديد سن الزواج إلى سن الثامنة عشرة، نتيجة تقصير بعض الآباء في حق بناتهم، فمنع زواج الفتيات صغيرات السن حماية لهن وللمجتمع من التفكك.

انتشرت ظاهرة الزواج العرفي بين الشباب. فما رأيك في هذا النوع من الزواج؟

هذا النوع من الزواج مفتقد لشروط النكاح الصحيح، حيث إنه تم بدون ولي، وبالتالي فإنه يعد فاسدًا، ويجب على ولي الأمر فسخ العقد فور علمه أو توثيقه توثيقًا رسميًا وإشهاره؛ حماية للفتاة من ظلم الزوج.

 

رعاية المسنين في الشريعة

لك وجهة نظر تبنيتها في كتابك «قضايا وأحكام المسنين المعاصرة» حول رعايتهم فما هي؟

شريعة الإسلام هي شريعة التراحم والتكافل، لا تسمح بالفتنة والوقيعة بين نسيج المجتمع الواحد، ولقد تأخر علم دراسة الشيخوخة وما يلزمها على النقيض تمامًا من تقدم علم دراسة الطفولة واحتياجاتها، ولعل ذلك يرجع إلى مماطلة الإنسان في الاعتراف بضعفه بعد قوة، كما يرجع إلى تعلق الإنسان بالحياة وأمله في الخلود.

وفي رأيي أنه في ظل التشريع الإسلامي لا يوجد ما يسمى بإشكالية المسنين التي جسدتها العولمة في هذا العصر، وأرعبت بها العالم، مستندة إلى إحصاءات بيانية تكهنية تشير إلى ابتلاع هؤلاء المسنين للخدمات الصحية والاجتماعية النفسية؛ حتى لا يبقى للشباب منها شيء، في الوقت الذي يعجز فيه المسنون عن العطاء، فكان الإنفاق عليهم مضيعة ومهلكة لتلك الخدمات التي يجب توفيرها لمن يؤمل فيه العطاء من الشباب. أما أولئك المسنون فحسبهم ما قد حصلوه في صحتهم وشبابهم.

لذلك فإن التشريع الإسلامي أحاطهم بمزيد من التحصينات؛ لما قد يطرأ في بعض الأزمنة أو الأمكنة من المساس بهيبتهم، فأمر بتذويب المسنين في نسيج المجتمع؛ بجعل حقوق مشتركة لأفراد المجتمع؛ مثل حق الحياة، والتداوي، وتحريم الانتحار والقتل إلا بحق، بل ترقيتهم اجتماعيًا، ومن ذلك أولوياتهم في إمامة الصلاة، وتصدر المجالس، وحظوتهم بألقاب الشرف كالأب والجد وصفة الكبير. كذلك حماهم التشريع الإسلامي من الغدر البشري بالاستغناء بالنفس عن طريق الإنتاج والادخار؛ تحسبًا لنوائب الدهر، والاستغناء بالأهل عن طريق تكليفهم برعاية كبرائهم؛ أخذًا بمبدأ تدوير الولاية، والاستغناء بالمجتمع عن طريق تكليف المجتمع برعاية بعض فئاته كالمسنين والأطفال والنساء والمرضى. إلى جانب أن الشريعة عالجت القضايا والإشكاليات التي قد تعتري المسنين في شتى مجالات الحياة التشريعية، بما يتناسب وظروف شيخوختهم من الضعف والبأس بسبب طول الأجل، مما يمكن أن نسميه فقه المسنين، وذلك في أهم مسائل العبادات والمعاملات.

 

الثورات العربية

في ظل ما تموج به بعض الدول العربية من تظاهرات واحتجاجات.. كيف ترى الثورات العربية؟

الثورة شيء طبيعي، والتاريخ يحمل الكثير من الثورات التي قامت بها الشعوب، ذلك أن الإنسان يطمح دائمًا إلى ما هو أعلى. فمطالب اليوم بالنسبة للماضي وقبل مئة عام تعتبر نوعًا من الرفاهية السياسية، وأحلام اليوم بالنسبة للمستقبل تعتبر ماضيًا، وهذا هو التطور الطبيعي للديمقراطية، لكن المهم أن يشعر الجميع بتنامي الديمقراطية، فيشعر الكل بأنهم سواسية مهما اختلفت مراتبهم، وهذا من المبادئ الأساسية للإسلام.

والتاريخ هو الذي سيحكم على مدى نجاح الثورات، وأنا أرى أن الأهم من نجاح الثورة هو أن يظل هذا النجاح قائمًا متوقدًا ومستمرًا، فحتى الآن لم تجن الثورات ثمارها المرجوة، وما تم قطفه من ثمار قليل وضعيف جدًا.

ما هي الأسس والمبادئ التي يجب أن يبنى عليها الحكم؟

الحكم يجب أن يكون في المقام الأول على أساس إنساني لا ديني وفق الضوابط التي تتوافق مع الشرع والنصوص القرآنية، فيتم توضيح المبادئ الإسلامية السامية والأحكام التطبيقية للمعاملات بين الناس وبعضهم، وبين الله، بحيث يحدث نوع من التوافق بين الدين والسياسة التي تحقق الخير للمجتمع الإسلامي.

هل الديمقراطية التي تطالب بها الثورات العربية تتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية؟

الديمقراطية لا تتعارض مع القواعد الفقهية الإسلامية، وعلى الرغم من أنها نظام غربي المنشأ، فإنها إنسانية المصدر، فهي نظام مستحدث يعمل على تنظيم العلاقة بين أفراد الشعب حسب اختيارهم، وهذا المفهوم لا يخالف أي نص شرعي، ولقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيئ».. وهذا النظام هو الأصلح في تنظيم العلاقة بين الشعوب متعددة العقائد والمذاهب، حيث يتيح للأقليات المشاركة وعدم التهميش، ولقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء.

لكن هناك من يتخوف من الولاية الإسلامية؟

الحكم في الشريعة الإسلامية بالأساس ليس وظيفة دينية كالحج والصلاة والصيام، كي تكون الولاية إسلامية، بل هو وظيفة مدنية كالزراعة والصناعة؛ لذا فإن من يقوم بها يأتي وفقًا لاختيار الناس ورؤيتهم. أما بالنسبة للشرط الذي وضعه الإسلام في الحاكم فهو أن يقيم العدل؛ كي يصح حكمه. قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}. كما قال ابن تيمية: «الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام».