mena-gmtdmp

أجمل ما قرأت من قصص التراث العالمي: "الفارس الصغير بين الخيال والواقع"

صورة لأم تحكي قصة لطفلها
أم تحكي باهتمام أجمل ما قرأت من قصص التراث

كثيراً ما تشاهد الأم طفلها ممسكاً بالعصا مرتدياً ملابس الفرسان، وكأنه قائد مغوار يستعرض عضلاته وقوته أمام المرآة! وأحياناً يضع وشاح أمه على رأسه متمثلاً بأبطال العصور الوسطى! ومرات يرص صف العساكر والضباط والأسلحة على أرض غرفته، ويجلس ليحاورهم وكأنهم في قلب معركة واحدة وعلى أرض لا حدود لها، ولأن الخيال خطوة تحفيز لإبداع الطفل وتنمية مهاراته العاطفية والاجتماعية، واستخدام عبارات جديدة منتقاة لتناسب البطولات ومسرحة الخيال، اختارت الأم قصة "الفارس الصغير بين الخيال والواقع" من حكايات قبل النوم ، لما تحمل من عبق الماضي وتراث الأجداد القصصي، وما تحمل من تحفيز للطفل على حب الخيال والتعامل معه بحب وترحيب، شرط ألا يطغى على الواقع الذي يعيشه الطفل وسط منزله وبين أهله وأصحابه، وما في هذا المعنى من عبر وقيم حياتية على الطفل التأثر بها والسير على هديها.

 

عاصم يقرأ بحجرته الخاصة

طفل يقرأ في جو خاص

تبدأ الحكاية مع الطفل عاصم، هو في التاسعة من عمره، يعيش في بلدة بعيدة هادئة -لا يهم اسمها أو أين مكانها- تحيط بها الأشجار لتُجمل بها الطبيعة، والمكتبات لتُزين بها العقول، وعاصم طفل وحيد ليس له أخ أو أخت، لهذا فهو مختلف عن غيره من الأطفال؛ بات يفضل العزلة، وفي الوقت الذي كان أقرانه يلعبون في الحدائق بالكرة وجذب الحبل، أو يتسابقون على الدراجات، كان هو يفضل الجلوس في ركنه الخاص بغرفته محاطاً بالكتب، وكان سعيداً بالقراءة والتجول في أنحاء العالم منبهرًا بكل سطر يطالعه، كان يجد في كل صفحة مغامرة، وفي كل قصة ممالك وحكايات وأساطير وأبطالاً ينتقل معهم بعقله ويعيش معهم بخياله.

 

عاصم يعيش في الخيال

طفل يقرأ ويعيش الأحداث بخياله

في خياله زار عاصم جبال العالم، وأبحر في سفن القراصنة، وطار مع الطيور الملونة الضخمة السحرية، وكان يتنقل بين العوالم وكأنه يمتلك مفاتيحها بين أصابعه، والغريب أن عاصم لم يكن يملّ القراءة، وكان يعتبرها حياته الحقيقية، أما الواقع الذي يحياه بالبيت أو المدرسة فهو مجرد محطة للراحة قبل الانطلاق لقصص جديدة مختلفة من الخيال!

 

عاصم يجلس في عزلة عن الناس

إحدى سفن القراصنة


ومع مرور الأيام، ارتضت الأم والوالد بأسلوب ابنهما الوحيد مع أصحابه، ولم يعترضوا على وحدته وجلوسه الطويل بين صفحات الكتب والقصص التي طغى عليها الخيال، خاصة بعد أن أصبح يفضّل البقاء في عوالمه السحرية على التفاعل مع محيطه؛ فلا يشارك في النقاشات الأسرية، ولا يُبدي اهتماماً بما يحدث في المدرسة خارج حصة المكتبة، حتى عندما يسأله أحد عن أحلامه، يجيب بثقة: "أنا أعيش في قصة لا تنتهي".

 

عاصم عاشق للمغامرة والقراءة

الكتاب الذي كان يطالعه عاصم لم يكن مجرد صفحات مكتوبة، بل بوّابة لعالم يشارك فيه بخياله لينسج ويضيف أحداثاً جديدة؛ لم يكن يكتفي بما كتب المؤلف، بل يضيف شخصيات، ويغيّر النهايات، ويتدخل في مجريات الأحداث كما يشاء، في إحدى القصص أنقذ عاصم الأميرة من قلعة مهجورة، وفي أخرى أصبح فارساً يدافع عن مملكة تهددها الوحوش، وكان أحياناً ينسى أن ما يعيشه مجرد خيال، فيتحدث مع أمه وزملائه عن مغامراته وكأنها وقعت بالفعل، حتى بدؤوا يبتعدون عنه في المدرسة، غير قادرين على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مختلق!

 

عاصم ومكتبة والده الكبيرة

طفل يقرأ وسط مكتبة مكتظة بالقصص والكتب

ابني الحبيب: الكتب أصبحت عالم عاصم الوحيد، وباتت المكتبة بالمنزل أو المدرسة هي بيته الثاني العزيز، كانت الأم تقلق وتنزعج أحياناً، وفي الحقيقة كانت تخاف عليه من العزلة والانطواء، لكنها كانت ترى في شغف ابنها عاصم بالقراءة نعمة لا نقمة، لهذا لم تتدخل كثيراً، على أمل أن يجد وحده طريق التوازن، ولم تكن تعلم أن خيال ابنها سيقوده إلى لحظة فارقة مفصلية دون تدخل أو توجيه منها.
نعم مع الوقت، بدأ عاصم ينسحب بهدوء من محيطه القريب، لم يعد يشارك في رحلات المدرسة، ولا يحضر حفلات أعياد الميلاد، وحين يُسأل عن السبب، يبتسم بخجل ويقول: "لدي موعد مع مغامرة جديدة"، وفي المنزل، لم يعد يشارك والديه اللعب أو الحديث، وكانت والدته تكتفي بمراقبته وهو يقرأ، وتحاول فتح حوارات صغيرة، لكنه يجيب بإجابات مختصرة، ثم يعود إلى كتابه، حتى في فترات الطعام، كان يُسرع لإنهاء وجبته ليعود إلى خياله.

 

عاصم الفارس الصغير

أحد الفرسان القدامى فوق حصانه

كان عاصم يتصرف وكأن الخيال أصبح ملاذاً وهروباً له، لا مجرد وسيلة إبداع، وبدلاً من أن يشعر به وسيلة لفهم وتجميل الواقع، تحول إلى جدار عازل بينه وبين الحياة اليومية، بدا وكأنه يسكن في قصة، غافلاً أن الحياة الحقيقية لها أبطالها أيضاً المختلفون.
ولكن حدث أن توجه عاصم في أحد أيام السبت -إجازته من المدرسة- كعادته إلى المكتبة العامة، وكان يعرف ما تحمله الرفوف كلها، لكن عينه كانت تبحث عن كتاب معين: الجزء الثاني من مغامرته المفضلة، قلب في الرفوف، سأل أمينة المكتبة، وفتش في الزوايا لكن لا أثر له.

 

عاصم يشعر بالصداقة لأول مرة

لأول مرة، يشعر عاصم بالضياع الحقيقي -لا داخل قصة- بل في الواقع، وكأن عالمه بدأ يتفكك فجأة، ولم يعد كل شيء طوع أصابعه... ماذا يفعل؟ جلس عاصم على الأرض وهو قلق ومنزعج، عاقداً حاجبيه، بينما استمع لسؤال طفل آخر كان يجلس بجانبه: أنت تبحث عن كتاب الفرسان؟ لقد قرأته أمس.
وبدأ الحديث بين الطفلين يتحول إلى حوار طويل؛ عن الشخصيات، عن النهاية، عن ما تمنياه لو كتبهما المؤلف بطريقة مختلفة، وبعد لحظات انضم إليهما طفل ثالث ثم رابع، وفجأة وجد عاصم نفسه في قلب حلقة نقاش صغيرة، مليئة بالحماس والضحك.
في تلك اللحظة، أدرك عاصم شيئاً جديداً هو أن الخيال يمكن أن يكون أجمل عندما يُشاركه مع الأصدقاء، وأن العالم الواقعي لا يقل إثارة حين نكتشفه مع الآخرين.
منذ ذلك اليوم، تغيرت نظرة عاصم لعالمه؛ هو لم يتخلَّ عن القراءة، ولم يتوقف عن الحلم، لكنه بدأ يدمج بين الواقع والخيال، أصبح يقرأ، ثم يناقش القصص مع زملائه في المدرسة، كتب مراجعات صغيرة وعلّقها في المكتبة، وفي الصف أصبح يربط ما يتعلمه من دروس الرياضيات والتاريخ بعوالمه القصصية التي قرأها ولازال يتابعها.

 

عاصم يودع عالم الخيال

طفل سعيد بالعودة إلى مدرسته

أصبح الخيال وسيلته لفهم الواقع لا للهروب منه، وعاد ليجلس مع أسرته على مائدة الطعام، يحكي لهم عن قصة قرأها، ويسألهم عن يومهم، عاد عاصم إلى محيطه، لكن بعينين جديدتين: واحدة تحلم، وأخرى تلاحظ. واكتشف أن القصص الأجمل هي تلك التي نعيشها مع من نحب، وأن البطولات ليست فقط في الكتب، بل يمكن التحلي بها في كل تصرف صغير فيه نقدم الخير أو نمد يد مساعدة أو مشاركة الآخرين... هنا توقفت الأم عن الكلام ونظرت لابنتها الصغيرة بحب لعلها تكون فهمت مغزى القصة واستطاعت أن تفرق بين الواقع والخيال.

استكملت الأم القصة بسرد الكثير عن فوائد الخيال وقالت:

  • يلعب الخيال دوراً كبيراً في حياة الطفل، وكأنه الرفيق الدائم له، هو مفيد للعب الإبداعي، ويمكن أن يستحوذ على الطفل أفضل من أي لعبة.
  • يلعب الخيال دوراً مهماً في تنمية مهارات الطفل الاجتماعية والعاطفية؛ باستخدام الطفل لخياله، ينتقل بمشاعره وسلوكياته للعب أدوار جديدة.
  • اللعب التخيلي يسمح للطفل باستخدام كلمات وأصوات وتعبيرات مختلفة أثناء اللعب، ومع خيالاته يتعلم استخدام العبارات الشائعة.
  • الخيال ليس ترفاً فكرياً في حياة الطفل، بل هو ضرورة تربوية ونفسية؛ يمنح الطفل الفرصة لتنمية مهاراته الحركية، اللازمة للنمو البدني.
  • الخيال يتيح للطفل التعبير عن عواطفه، واستكشاف مفاهيم معقدة كالصداقة والخوف والشجاعة، بطريقة آمنة ومتدرجة، مع الخيال يتعلم الطفل مهارات حلّ المشكلات، وتكوين الرأي، وتقبّل التعدد في وجهات النظر.
  • الخيال يصبح أداة فعالة فقط عندما يكون في توازن مع الواقع؛ عندما يُدمج مع الحوار، ومع التفاعل الاجتماعي، يتحول إلى محفّز للتعلم والابتكار، لا إلى حاجز عازل.