mena-gmtdmp

بينالي البندقية 2025: الجناح المصري المستوحى من الواحات يقدم درساً تفاعلياً في العمارة

الجناح المصري في بينالي البندقية للعمارة
الجناح المصري في بينالي البندقية 2025

جمعت كلية العمارة والصداقة وبينالي البندقية بين المعماريين المصريين الثلاثة: إبراهيم زكريا، والدكتور صلاح ذكري، وعماد فكري، الذين يقفون خلف الجناح المصري في الدورة 19 من بينالي البندقية 2025. وهم يقدمون عبر تصميم يبدو بسيطاً في العين المجردة من خلال الجناح المصري في "البينالي"، مفهوماً متكاملاً عن قرارات الإنسان وتأثيراتها على البيئة من خلال استخدام طاولة ومكعبات، مع مؤثرات متمثلة في الموسيقى والضوء والصورة. الجناح التفاعلي الذي يجذب الزوار هو درس مصغر في العمارة مثير للأعمار كافة من الطفل إلى الفيلسوف، يركز على أفعال التنمية والحفاظ، يتخذ من واحات مصر مثالاً إلا أنه ينطبق على أي بقعة جغرافية. في السطور الآتية مقابلة مع المهندسين الثلاثة الذين أجابوا على أسئلة "سيدتي"، بصوت واحد، بعد جلسة عصف ذهني، مع الإشارة إلى أنهم أرادوا من خلال الجناح أن يسمعوا العالم صوتاً منبعثاً من جذورهم، لكن بروح معاصرة، ليكون جناح مصر مساحة تفتح للحوار مع الإنسانية كلها، حسب كلماتهم.

3 مهندسين

المعماريون إبراهيم زكريا والدكتور صلاح ذكري وعماد فكري في الجناح المصري ببينالي البندقية 2025

هل كانت التحضيرات لبينالي البندقية 2025 فرصة أولى لتعارفكم، أم عملتم معاً سابقاً؟

تعارفنا يعود إلى أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، حين جمعنا قسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة القاهرة. هناك، نشأت صداقتنا، التي لم تتوقف عند حدود الدراسة، بل امتدت لتصبح صداقة حياة حقيقية. كل واحد منّا اليوم يقود مكتبه وممارسته المهنية المستقلة، وله أيضاً عمله الأكاديمي وبحثه الخاص. ورغم اختلاف المسارات وتنوّعها، فإننا نعرف جيداً كيف نكمل بعضنا؛ خبرة هذا تغذي رؤية ذاك، وأفكار أحدنا تفتح للآخر أفقاً جديداً. عصفنا الذهني المشترك فعّال إلى حدّ كبير، لأننا نعرف بعضنا بعمق، ونثق أنّ الاختلاف بيننا مصدر ثراء لا عائق. هذه الثقة جعلتنا نغتنم فرصة بينالي البندقية لا كحدث عابر، بل كمنصّة لتمثيل مصر، ولتقديم رؤية معمارية مصرية تنبع من أرض وُلدت فيها أعظم الأعمال المعمارية في التاريخ. أردنا أن نُسمع العالم صوتاً منبعثاً من جذورنا، لكن بروح معاصرة، ليكون جناح مصر مساحة تفتح للحوار مع الإنسانية كلها.

التصميم في الجناح المصري

زوار في الجناح المصري ببينالي البندقية 2025

عرّفوا القراء والقارئات بالتصميم في الجناح المصري، المستوحى من واحات مصر، لنواحي الفكرة وكيفية التنفيذ في "البينالي"؟

زائرة تستخدم المكعبات في الجناح المصري

الواحة كانت اختيارنا لأنها المكان الذي يمكن فيه أن نفهم معنى التوازن بأوضح صورة، فهي بيئة هشّة، مواردها محدودة، وحياتها مُعلّقة على خيط ماء رفيع، ومُعرّضة لأن تختلّ بأقل القرارات صواباً أو أن تستمر بأكثرها حكمة. لهذا، رأينا في الواحة النموذج الأمثل لفهم كيف تؤثر القرارات – سواء كانت قرارات تخص الحفاظ أو التنمية – على توازن تلك البيئة الهشة. ليست الواحة وحدها ما يعنينا، بل يعنينا ما تمثله؛ فالديناميكيات ذاتها قد تنطبق على مدن، وأقاليم، وبيئات حضرية وطبيعية متعددة، وصولاً إلى الكوكب نفسه. جسّدنا الفكرة في صورة طاولة كبيرة معلّقة على نقطة ارتكاز يتأرجح توازنها مع مكعّبات يضعها الزائر تُمثّل مجموعةً من القرارات المختلفة الخاصّة بالحفاظ أو التنمية. لكن هذه المكعّبات ليست متساوية بل هي تختلف في أوزانها وأحجامها، لتشير إلى أنّ القرارات في الحياة لا تملك الأثر نفسه؛ فبعضها قد يؤثر على توازن الطاولة (البيئة) بشدة مما يميل الكفّة سريعاً، وبعضها قد لا يغيّره إلا ببطء. الأهم أنّ التوازن لا يُصنع بقرار فردي، بل بتعاون الجميع، عبر الزمن والأجيال، وعبر مختلف مستويات الفاعلين (الزوار) – من المعماري إلى المخطط إلى السياسي إلى المستخدم. لذلك، حالة التوازن في الجناح لا تدوم، بل هي مؤقتة، هشّة، تحتاج إلى إعادة صياغة مستمرة.


قد يهمك الاطلاع أيضاً على المعمارية ماجدة الهنائي لـ سيدتي: جناح سلطنة عمان في بينالي البندقية 2025 يعرض السبلة بلغة فنية معاصرة

واحات مصر

لفتتني فكرة استلهام تصميم الجناح من واحات مصر؛ هذه الأخيرة مأهولة بالسكان وواقعة في الصحراء الغربية وهي نتجت جراء تغير المناخ، مع استخدام تقنيات لاستجرار الماء تطورت مع مرور الوقت. كيف يمكن وصف الواحات اليوم، من منطلق العمارة؟

الواحات المصرية شواهد حيّة على أن العمارة ليست حجراً فحسب بل منظومة معيشية كاملة؛ بيوتها الطينية، وشوارعها الضيقة، وحقول نخيلها، وبساتينها الصغيرة وُلدت من اقتصاد الماء والظلّ، ومن قدرة الإنسان على المواءمة مع الطبيعة. لكن الأهم أنّ الواحة ليست مجرد حكاية محلية، هي مثال مصغّر لفهم قضايا كبرى. ما يحدث فيها، يتكرّر في مدن ساحلية مهددة بالماء، في عواصم مكتظة تبحث عن متنفس، وفي أراضٍ زراعية مهددة بالتصحّر. طبيعة الواحة تعلمنا أن التوازن بين أفعال التنمية والحفاظ هو ضرورة مشتركة على جميع المقاييس – من الأصغر إلى الأوسع، من الواحة الصغيرة إلى الكوكب الكبير.

تحديات

ماذا كانت التحديات؟

واجهنا تحديات فكرية وتقنية في آن واحد؛ على مستوى الفكرة، أردنا أن نحافظ على بساطة واضحة، لكن من دون أن نفقد العمق؛ كأن يجد الطفل في الجناح لعبةً ممتعة، ويجد الأكاديمي فيه مادة فلسفية للنقاش. أما تقنياً، فالتحدي كان جسيماً؛ الطاولة المعلّقة ضخمة، بطول 10 أمتار وعرض 2.50 متر، وكان نقلها إلى فينيسيا مهمة صعبة. ثمّ، كان علينا أن نصممها بحسابات ميكانيكية دقيقة لتستجيب لأفعال الزوّار، بمرونة وسلاسة، من دون أن تفقد استقرارها أو تنهار تحت الأحمال عليها. اعتمدنا حلولاً بنيوية مبتكرة، كي تظل الطاولة "حرة" في حركتها، تميل يميناً ويساراً في أمان كامل. لقد كان التحدي الحقيقي أن يتحول التوازن من فكرة رمزية إلى واقع إنشائي ملموس.

الاستدامة العالمية

كيف يتلاقى المشروع مع موضوع الاستدامة العالمية؟

من واحة مصرية صغيرة يمتد السؤال إلى العالم كله؛ فالجناح لا يُعبّر عن مكان مُحدّد، بل عن ديناميكيات تتكرّر في كل بيئة: كيف نوازن بين ما يجب أن يبقى وما يجب أن يتغير؟ الاستدامة في عملنا لا تُقدَّم كنظرية مجردة، بل كتجربة حسيّة؛ كل مكعّب يوضع على الطاولة يغيّر النتيجة. أحياناً تميل بسرعة، وأحياناً تعود إلى التوازن بعد تضافر جهود كثيرة مشتركة من الزوار على مدار اليوم خلال مدة المعرض. هكذا يلمس الزائر أنّ الاستدامة عمل جماعي يحتاج إلى نفس طويل من الجهد المشترك، وهذا الجهد يتطلب توظيف الذكاء الطبيعي المستوحى من البيئة، والذكاء الاصطناعي كأداة حديثة، والذكاء الجمعي كخبرة بشرية متراكمة، مما يجعل الواحة درساً يُقرأ في القاهرة أو في فينيسيا أو في أية مدينة أخرى، كما يُقرأ على الكوكب كله.

تفاعل الزوار مع الجناح المصري

كيف حرصتم على تحقيق التفاعل مع الزوار من خلال التصميم؟

أردنا أن يشعر الزائر بالتوازن من خلال استخدام يده، لا من قراءة نصوص معلّقة، فحين تتحرك الطاولة تحت ثقل مكعّب واحد، يفهم أن فعله يؤثر. التفاعل الحسي هو ما يفتح باب الوعي، واللعبة تتحوّل إلى مرآة للواقع. لكن التجربة لا تتوقف عند تأرجح الطاولة في محاولة الوصول للتوازن، فالموسيقى تتغير، بدورها، مع كل وضعية ميل معينة، والإضاءة تنتقل بين الأزرق والأصفر، والصور على الجدران الأمامية تتبدل: تظهر تارة صورة لواحة متوازنة، وتارة أخرى صورة لمدينة متضخمة، وتارة صورة لمشهد فراغ متآكل؛ كل هذا يضع الزائر في قلب التجربة، ليشعر أنّه لا يغيّر التوازن فحسب، بل "المناخ البيئي" أيضاً داخل الجناح نفسه. بذا، يصبح الزائر في أية لحظة ليس لاعباً فحسب، بل "مخططاً" و"سياسياً" و"مهندساً"، مما يجعله يحسّ بمشاركته الحقيقية في صناعة الاستدامة وكأنه داخل تجربة واقعية. ومن هنا جاءت قوة التجربة. جناحنا يكاد يكون الجناح التفاعلي الوحيد في البينالي، وهو ما جعله محطّ إقبال واسع. لكن ما ميّزه أكثر هو أنّ كل الزوار، على اختلاف أعمارهم وخلفياتهم، لم يكتفوا بالمشاهدة بل شاركوا بالفعل؛ الأطفال تفاعلوا على المستوى الحسي البسيط، فتعلموا باللعب أن الأفعال تُغيّر، والكبار والعامة وجدوا متعة في التجربة المادية نفسها، أما المتخصصون فانتقلوا أثناء اللعب إلى مستوى أعمق، يتأملون العلاقة بين العمارة، والسياسة، والمجتمع. التجربة إذن متعددة الطبقات: كل زائر يشارك، لكن على مستوى فهم مختلف، من البسيط التربوي إلى الفلسفي المعقد. وهذا هو سر جاذبية الجناح.


قد يهمك الاطلاع أيضاً على بينالي البندقية 2025: فن البناء بالطين مع المهندسَين المغربيين خليل مراد الغيلالي والمهدي بلياسمين

مستقبل العمارة في مصر والعالم

كيف يرى كل منكم مستقبل العمارة في مصر والعالم؟ وكيف عكستم فكرة المستقبل من خلال الجناح؟

على جدار الجناح الأساسي في البندقية، استشهدنا بما كتبه الفيلسوف الألماني الشهير كارل بوبر: "المستقبل مفتوح. إنه غير محدد مسبقاً، ونحن جميعاً نساهم في صياغته بما نقوم به". وهذه العبارة كانت مفتاحاً لعملنا، لأنها تعكس إيماننا بأن العمارة ليست فقط ما نبنيه الآن، بل ما نمكّن الآخرين من المشاركة في صنعه. نرى أن مستقبل العمارة، في مصر كما في العالم، يجب أن يكون أكثر تواضعاً أمام الطبيعة، وأكثر وعياً بالمسؤولية تجاه المجتمعات الإنسانية. في جناحنا، عبّرنا عن ذلك عبر جعل الزائر شريكاً أساسياً في القرار؛ فهو الذي يضع المكعّب، والذي يغيّر المشهد، والذي يشارك في صناعة الغد. أردنا أن نقول إن التوازن لا يتأتى عن طريق خطة واحدة، أو من خلال سبيل واحد، أو عبر قرارات فردية لعقل واحد، بل هو نتيجة مجموعة قرارات وتداخل خطط وتراكم أحلام وتلاقي ثقافات وتجارب عبر أزمنة وأجيال مختلفة. الواحة الصغيرة ما هى إلا مرآة من خلالها حاولنا أن نقول: ما يحدث في مكان محدود ينطبق على بيئات أخرى، بأحجام وأنواع وظروف مختلفة. العمارة هنا تتحول إلى أداة لإطلاق أسئلة كونية، حيث الحفاظ والتنمية ليسا خيارين متعارضين، بل قوتين متوازيتين تحتاجان إلى تنسيق دائم، من نطاق جغرافي محدود (حيّ أو قرية صغيرة)، إلى منطقة عمرانية أوسع (مدينة كبرى)، إلى حيز إقليمي ممتد (دولة كاملة)، إلى مستوى عالمي أشمل (الأرض ككل).

في سطور...

المعماريون إبراهيم زكريا والدكتور صلاح ذكري وعماد فكري
  • المعماري إبراهيم زكريا، هو المؤسِّس والرئيس التنفيذي لمكتب L’Interno Architects، الذي أنجز العديد من المشروعات المعمارية والتجارية الناجحة منذ عام 2014. تخرج في كلية الهندسة بجامعة القاهرة عام 1996، وبدأ مسيرته المهنية في مكتب المهندس جمال بكري، ثم عمل مع مؤسسة آغا خان في مشروعات القاهرة التاريخية وحديقة الأزهر بمجال التوثيق والترميم الأثري، وهو المجال الذي فاز عنه بجائزة الدولة للإبداع الفني في العمارة، مما أهله لقضاء عامي 2005-2006 باحثاً بالأكاديمية المصرية للفنون في روما. كما شارك في تصميم وإدارة مشروعات كبرى بمصر وقبرص والسعودية، منها مول العرب بالقاهرة مع مجموعة فواز الحكير، ومشروعات عدة في قبرص مع شركة لبتوس العقارية.
  • الدكتور المعماري صلاح ذكري، هو المؤسِّس والرئيس التنفيذي لمكتب Abiat Architects بالقاهرة، يتمتّع بخبرة تقارب ثلاثين عاماً في مشاريع التصميم المعماري، والتخطيط العمراني، والحفاظ، والتصميم الداخلي عبر مصر والشرق الأوسط. حاصل على دكتوراه في العمارة في جامعة القاهرة، وماجستير في العمارة في جامعة ويسكونسن – ميلووكي، وبكالوريوس العمارة في جامعة القاهرة. عمل في مكاتب رائدة منها شركة دار الهندسة بالقاهرة، ودرّس في مؤسسات أكاديمية بارزة مثل الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا. وقد نالَت أعماله اعترافاً عالمياً بترشحه أكثر من مرة ضمن القائمة القصيرة لجوائز مهرجان العمارة العالمي (WAF)، تقديراً لدمجه بين الفكر المعاصر، والاستدامة البيئية والثقافية، والرمزية والمعنى في تصميماته المعمارية.
  • المعماري عماد فكري، هو الرئيس التنفيذي لشركة INTARC للاستشارات المعمارية والهندسية في مدينة مالقة، بإسبانيا. حاصل على بكالوريوس العمارة في كلية الهندسة في جامعة القاهرة، وأكمل دراسته في إيطاليا وإسبانيا. متخصص في التخطيط العمراني والتصميم المعماري، ويدير حالياً مشاريع في كل من إسبانيا، والمملكة العربية السعودية، ومصر إلى جانب دول أخرى. يمتلك خبرة دولية واسعة، وقد حصل على جوائز هامة في مجال العمارة والتخطيط العمراني، وشارك بخبراته الأكاديمية في بيئات عدة، مثل: كلية العمارة والعمران بجامعة تيميشوارا (رومانيا) واللقاء الأورومتوسطي للمعماريين الشباب في خافيـا (إسبانيا).