المجرمة

إن الفطرة السليمة توجه مؤشرات الأبناء تلقائيًّا في سن الطفولة إلى آبائهم، لكن هذه الفطرة تحتاج لكي تتعمق وتترسخ في النفوس إلى أن يرويها الآباء بماء الحب والعطف والرعاية والمسؤولية عن الأبناء‏، فإن لم يفعلوا ذلك تراجعت وانهزمت أمام جفاء الآباء لأبنائهم ونبذهم لهم وتخليهم عن واجبهم الإنساني تجاههم، استرجعت ذلك حينما تذكرت أنه بعد انفصالي عن زوجي كنت أتضرع للخالق أن يكون معي، فهو سيهديني ويعينني على تربية أطفالي، وتعهدتهم بحبي وحناني ورعايتي حتى ينشأوا نشأة سليمة مدعومة بالثقة وخالية من الأزمات والعقد، وتكون قلوبهم معمورة بحب الله ورسوله وجميع الناس، فكنت لهم الأب والأم، وواجهت الكثير، تألمت وشقيت ولم أسترح.. ولم أشتك، فقد عوضت حرماني بالعطاء لهم‏.. ‏سنوات مضت وأنا أترقب كل لحظة وهم يكبرون أمام عينيَّ، واحتويت المواقف والمحن والمصاعب بحبي لهم، وبعدما أفنيت عمري وشبابي وصحتي في تربيتهم، وبعدما أكرمني الله بنجاحهم وبرهم، نعتني أمامهم وفي غيابي بأني أمٌّ مجرمة، لأنه يتوهم  بأني جعلتهم يقسون عليه، ونسي هذا الأب، الذي لم يتحمل أي مسؤولية تجاههم، إلا في مرات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، أنهم عاشوا زمنًا تلاشت فيه علاقته الأبوية، والبعد عنهم وهو في نفس المكان، وأنني التي ربيتهم وزرعت الحب في قلوبهم، وأنني كنت أبرر لهم غيابه بأعذار مختلفة ومتعددة، وأبرر إهماله بأمور لا تمت للواقع بصلة، وكنت أفعل ذلك تقربًا لله وحبًّا فيهم حتى لا يتحملوا ذنب عدم السؤال عنه عندما يظهر مرة أخرى في حياتهم، ولا أدري ما الذي يريده هذا الأب بعد أن حرمهم من أبوته وهم في أمس الحاجه إليه، ولم يكلف نفسه مشقة أن يجمعهم في بيته أو يضمهم في حضنه، وحتى عندما يزورونه  فكلامه عتاب ولوم وتخويف، رغم أن له حياته الخاصة التي يعيش فيها في جو بعيد عن أي إزعاج أو تحمل للمسؤولية، دعني أخبرك يا سيدي أن الود والحب والعطاء والصداقة مع الأبناء تراكمية، يجب أن تبدأ من الصغر، وتبنى شيئًا فشيئًا حتى تصل لمرحلة المراهقة، فهذه المرحلة مهمة وخطيرة، فهل عاصرت المراحل الحرجة التي مرت عليهم، لحظة كانوا يحتاجون لنصائحك وإرشاداتك؟ هل كنت معهم؟ ألم تشعر بمدى خوفهم وحرمانهم وفقدانهم للأمان عندما كنت لاهيًا عنهم؟ هل كنت تعرف مدارسهم؟ هل تدري كم من المواقف تطلبت وجودك معهم في تلك اللحظات؟ هل سهرت وتعبت في مرضهم؟ هل كنت مسؤولاً عن أكلهم وشربهم وملبسهم؟ هل كنت معهم عندما كانوا يلعبون ويضحكون ويبكون ويدرسون ويمرضون ويكبرون؟ هل عشت معهم مشاعرهم وأحلامهم وأمنياتهم؟ هل لمست جروحهم وأحزانهم وآلامهم؟ هل علمتهم القيم والمبادئ السليمة والكريمة.. وكيف يتحملون مسؤولية تصرفاتهم؟ هل دعمت مهاراتهم وإنجازاتهم وأبديت رأيك فيها؟ هل امتدحت أعمالهم ومميزاتهم وساهمت في تنمية وتطوير قدراتهم؟ هل علمتهم كيف يكون المنح والعطاء والتضحية والإيثار؟ هل دربتهم على الاعتماد على أنفسهم وزرعت الثقة في أعماقهم؟ هل سألتهم أو أخذت رأيهم في أي أمر أو قرار أو موقف؟ هل علمتهم كيف يضعون لأنفسهم مبادئ وأسسًا وواجبات، وتابعتهم وأشرفت عليهم وقلبك يكاد يخرج من بين ضلوعك من الخوف عليهم والدعاء لرب العباد أن يحفظهم؟ هل أجبت عن أسئلتهم ووجهتهم ونصحتهم؟ بالله عليك أخبرني أين كنت طوال تلك اللحظات الصغيرة قبل الكبيرة والحزينة قبل السعيدة في حياتهم؟ الآن أصبحت أنا أمًّا مجرمة بعدما حافظت على الأمانة التى استرعاني الله إياها، فلماذا تستغرب وتستنكر برهم وانجراف مشاعرهم تجاهي؟ هل هذا جزائي؟ هكذا بكل بساطة وسطحية.. تنعتني أمامهم بأني أمٌ مجرمة، فإذا كنت أنا كذلك.. فماذا ستكون أنت؟ فقبل أن تتهمني بالإجرام يا سيدي وقبل أن تصب غضبك عليهم، وجّه اللوم لنفسك أولاً، فالواضح مع الأسف أنك مازلت لا تعرف التمييز بين ما لك من حقوق وما عليك من واجبات، وبعد أن اختلطت المفاهيم عليك وأنت ترسم نفسك المسكين والضحية، الآن تذكرت بأن لك حقوقًا وأنت أول من نسي واجباته! يا أيها الأب الراعي والمسؤول، إن حقوق الأبوة لا تكتسب بالميلاد، وإنما بالرعاية والعطف والنهوض بالواجبات الإنسانية تجاه الأبناء،‏ وأعلم أنك مسؤول أمام الله عن الأمانة التي ولاك إياها، وإني أحمد الله الذي ساعدني على تربيتهم، وهو سبحانه من كان معي ومعهم.

 

أنين مجرمة

بالنسبة لي لن أحزن لاتهامك لي بالأجرام، فقد سبق وتشبعت باتهامات عديدة  وتعودت عليها، وثق بأني لم ولن أندم أو أتحسر أو أتألم على كل ما بذلته، لأني ولله الحمد، حصدت ثمرة كفاحي، ولم يخذلني ربي الكريم الرحيم مع أولادي.. كما أنتظر، بإذن الله، أن أقف أمامك وأمامهم وأمام كل من ظلمني واتهمني بين يدي الله، ولحظتها سيكون الحساب أمام من لا تخفى عليه خافية.