نعم، للصداقة نهاية

هل حقاً تنتهي، بين شخصين، صداقة نشأتْ منذ الطفولة، ثم تواصلتْ في خلال سنوات المراهقة والشباب؟

>>> 

وجدتُني أُحاورُ السؤالَ في إثْرِ لقاءٍ جمعني بها في ندوة أدبية أقيمتْ في موطن إقامتها الحالية بعدما غادرتْ لبنان.

ومن قبل، كانت بيننا زمالةٌ ومعرفة، ولا أقولُ صداقة.

لكن الزميلة موضوع السؤال، كانت صديقتَها؛ ومثلها، هاجرتْ في خلال سنوات الحرب؛ وقد جعلتها العلاقة الوثيقة بينهما تقترب منها أكثر، فتزوِّجها أخاها: «وهكذا أصبحتا أختين وليس صديقتين وحسب». وهذا ما كانت تُردِّدُه في جلسات الصداقة والزمالة.

>>> 

ثم وقعت الحرب، وسافرتْ مع عائلتها. لكنها بقيتْ حاضرة في ما تكتبُ وتنشُرُ في الصحف.

>>> 

ثم التقينا في تلك الندوة الأدبية، ووجدتُني أطرح عليها سؤالاً عفوياً عن حالِ صديقتها، وزميلة القلم، زوجة أخيها؛ وفاجأني جوابُها الحيادي:

ـ لستُ أعلم عنها شيئاً.

ـ ولكنها صديقتك...

ولم تدعني أتابع سؤالي، بل قالتْ بحزم: وللصداقَةِ نهاية...

>>> 

جوابُها البارد دفعني إلى مناقشة ذاتية، ومحاولة البحث عن أسبابٍ تقود إلى بَتْرِ العلاقة بين شخصين، وهي منوّعة ومتعدّدة.

>>> 

ومِلتُ بفكري إلى علاقاتي وصداقاتي، ورحتُ أتساءل: أين هي؟

وكانت صديقة الطفولة.

وتعود إليّ كلماتُها ودعاباتُها كلما فكّرت فيها، وبذلك الزمان الجميل، أيام الطفولة.

وأين هي اليوم؟

>>> 

لقد باعدتْ بيننا الأيام؛ وعندما قرّرتُ مغادرة قريتي الصغيرة، كي أتابعَ دراستي، كان صوتُها يؤنّبني: ولماذا تختارين البعاد؟ ولم يسبقْ أن خرجتْ فتاة من قبلك؟

>>> 

ثم هاجرتْ هي بعدما تزوّجتْ مغترباً ثرياً، اختارَها من بين صبايا الضيعة، عروساً، وارتحلا. ولم تعدْ إلى القرية أو الوطن.

ولدى مرورِ ذكرها، كنتُ أرفضُ رؤيتَها بعين الحاضر، بل بقيتْ في الذاكرة الطفلةَ التي تفضّلُ المرحَ على الطموح.

>>> 

وفي المدينة التقيتُ تلك الصديقة المميّزة بالذكاء والشجاعة. وجمعتْ بيننا زمالةُ القلم، بعيداً عن الحسد والغيرة.

كنا نتبادل الأفكار، نتّفق أو نختلف، إنما يبقى ذلك كلُّه ضمنَ دائرةِ الصداقةِ الخالصة.

وحين اختارتِ الهجرةَ مع عائلتها، في زمن الحرب، لم يُنْقصِ البعادُ دفءَ محبةٍ جمعتنا.

وعندما أتساءل: كيف دامت تلك الصداقة وبرغم الهجرة وتبدُّلِ الأحوال؟... أسمعُ جواباً واحداً يؤكّدُ لي بأن الإخلاص والبعد عن الأنانية هما في طليعة الأسباب.

>>> 

إنما عرفتُ وجهاً آخر للصداقة حين تبلغ حداّ معيّناً ثم تنكسر؛ وذلك عندما اتصلتْ بي بعد غياب سنين: مشتاقة! قالت: ومتى نلتقي؟ وكنتُ مثلها، تائقة إلى لقائها، لكن، وبعدما تمادَتْ بالكلام، شعرتُ بأنها تبتعد؛ ولم تعدْ بيننا لغةٌ مشتركة؛ فقد كانت عباراتُها تفضحُ تطرّفَها الفكري، وعصبيّةً لم أعرفْها عندها من قبل. لقد تغيّرتْ كثيراً، صديقتي، ولم يعدْ هناك ما يجمعُ بيننا، فلماذا نلتقي؟

>>> 

وهكذا قرّرتُ أن أبقى صادقةً مع فكري وشعوري، لأن الإخلاص هو جوهرُ الصداقة وغذاؤها الدائم.