غرناطة

شهرزاد


هل تأثر أحدكم يوماً بشخْصيّةٍ تاريخيّة أو دينيّة أو سياسيّة أو أدبيّة أو فنيّة إلى حدِّ تَقَمُّصِ هذه الشخصيّة بكلِّ مواقفها وأحساسيسها وأحلامها وانْكساراتها؟
وهل جرب أحدكم يوماً أن يغفو أمام صفحاتِ كتاب يتحدّث عن حِقْبةٍ زمنيّة معينة، ثم يستيقظ ليجد نفسه يتجوَّل في طرقاتها وهو يرتدي ملابس أهلها ويمارس طقوسهم، ويعيش الحياة التي يعيشونها؟
على الرغمِ من غَرابةِ الاستفسارات هنا، إلاّ أن هذا قد يحدث أحياناً بِشَكْلٍ أو بآخر!
فقد كنت في مُنْتَصَفِ مرحلة المُراهقة حين قرأت ولأوَّلِ مّرةٍ عن ليلةِ سقوط غرناطة، ولا أعلم لماذا تعلَّقت روحي بأحداثها إلى هذه الدرجة التي أبْقتها حيّة في ذاكرتي كل هذه السنوات، وكأنها لم تكن ليلة تاريخيّة خُلدت في كتب التاريخ، بل كأنها كانت ليلة شخصيّة عشت أحداثها ذات عُمْرٍ، وعانيت فيها من شِدّةِ الفَزَعِ والحزن والقلق..

فكلِّ ليلة حزينة مرَّت بعمري ذكرتني بليلةِ سقوط غرناطة،
وكل ليلة أتت مثْقلة بوجعِ الحنين ذكرتني بليلةِ سقوطِ غرناطة، وكل ليلة ختمت فيها حِكاية دافئة أو فقدت فيها أمنيّة عزيزة، ذكرتني بليلةِ سقوط غرناطة..
وكل ليلة لوحت فيها لعزيزٍ مودعة، أو ترقبت فيها نبأً حزيناً أو انْكساراً ما، ذكرتني بليلةِ سقوط غرناطة..
وأجهل وجه الشبه بين ليالي روحي الحزينة، وتلك الليلة التي سقطت فيها المدينة الجميلة..
فغرناطة عاشت في داخلي منذ ذلك العمر الذي بكيت فيه وأنا أقرأ طقوس ليلتها الأخيرة قبل السقوطِ، وكأنني ولدت في ليلة من لياليها المقمرة، أو كأنني كبرت في منزلٍ من منازلها الدافئة وقضيت طفولتي بين طرقاتها القديمة!
ترى لماذا تتعلّق أرواحنا في الأماكنِ التي نزورها في بعض الكتبِ؟
وكأننا نتوه عند القراءةِ بين أوراقِ الكتبِ ونفقد ذاكرتنا على صفحاتها ونتقمَّص شخصيّاتها إلى حَدِّ الوهم والضياع بين حدودِ الخيال والواقع، فلا نعلم إلى أيِّ الحدودِ ننتسب وننتمي؟
وربما هذا ماحدث معي حين قرأت عن تلك الليلة الحزينة، واقْتربت من خلالِ القراءةِ من مشاعرِ أهلها وفزعهم في تلك الليلة، فكبرت وأنا أتذكر كل التفاصيل التي نسيت أن أتخلَّى عنها في مرحلةٍ عمرية سابقة، وحملتها معي كاملة كأنني عشتها بالصوتِ وبالصورةِ، وكأنني كنت أخْتبئ في مكانٍ ما حين تسلَّل إلى أُذُني صوت بكاء الأطفال والنساء، وصوت الأميرة الأم وهي توبِّخ آخر ملوك الأندلس بعبارتها الشهيرة (ابك كالنساء مُلكاً لم تحافظ عليه كالرجال).
قبل النهاية بقليل:
كانت ليلة فراقك طويلة، كئيبة حزينة، كأنها ليلة سقوط غرناطة، ففي ليالي الفراق تسقط مدن أحلامنا بقسوةٍ!