آخر الراحلين

شهرزاد


لماذا مازال طيفك يمسك بطرف عباءتي، ويلاحقني في كل الأزمنة، وفي كل الأمكنة، وفي كل مراحل عمري وكأنه أصغر أبنائي؟
لماذا مازال طيفك يغني لي في ليالي الحنين أغنياتي المفضلة، ويثرثر أمامي كثيراً، ويسرد عليَّ ذكرياتك كأنها تاريخي العريق؟
لماذا لم يرحل طيفك في تلك الليلة التي رحلت بها أنت؟
ولماذا لم يغادر برغم مرور سنوات عجاف على تلك اللحظة، التي يُطلق عليها لغوياً (فراق) ومعنوياً (موت)؟
لماذا لم يغادر برغم تلك الرياح التي هزت بعد الفراق عالمي، وأطاحت ببنائي، واقتعلت أشجاري، وعاثت في بساتيني الخراب؟
رغم ذلك الفراق الذي بعثر حكايتي معك بكل ما فيها من أحلام وأفراح وأطفال ودفاتر، وترك البقايا عارية كأشلاء ممزقة على قارعة العمر..


رغم وجع تلك الليلة التي رأيتك تغادر فيها قصير القامة، وكأن ليالي الوداع حين تأتي تأكل من أجسادنا، وتُنقص من قاماتنا، فننحني من شدة الوهن حتى نكاد نسير على أربع..
رغم ذلك الدرس القاسي الذي لقنتنا إياه الحياة، حين علمتنا أن الحب لاينتصر في كل المعارك، مهما كان قوياً.
رغم ذلك البرد الذي استوطن روحي ليلة الوداع، وشيد في داخلى مدينة شتائية لا تذوب ثلوجها، ولا تنمو أشجارها، ولا تطير عصافيرها، ولا تشرق شمسها أبداً..

رغم قسوة المنظر وأنا أراك تغادر بتردد، كأنك آخر الراحلين من الأرض، وكأني آخر المتبقين عليها..
رغم تلك الأوجاع التي هشمت ظهري، وأنا أحاول بكل قوة قلبي أن أَقلب صفحتك بكل مافيها من تفاصيل مكتظة، وعمر ثقيل..

رغم ذلك الذهول الذي ارتسم على وجهي، وأنا أعود كي أطرق أبواب الحكاية وحدي، وأتجول في شوارعها وحدي، وأجلس على مقاعد طرقاتها وحدي..
رغم تلك المتاهة التي ضعتُ فيها سنوات وأنا أبحث عنك، وعن باب الدخول إلى حكايتي معك مرة أخرى، بقلب آخر، وروح أخرى..
رغم تلك الليلة الحزينة التي مزقتُ فيها كل الرسائل والصور التي تشهد أنك مررت عالمي في أصدق مراحل العمر، وأصبحت بلا تاريخ عاطفي..
رغم رقصة الموت التي أديتها على رفات حكايتك ببراعة تامة، ونثرتُ عليها آخر ورودي، وأعلنت النهاية بلا تردد..

لطفاً... ماهي لغة طيفك؟
كي أشرح له أننا افترقنا منذ زمن، وأن وجوده معي حماقة كبرى!
قبل النهاية بقليل:
وكأن أطيافهم هي آخر من يرحل من عالمنا ويغيب!