شجرة حنين

شهرزاد


وكأن للحنينِ شجَرة، وكلما كبرنا، تشعَّبت جذورها فينا ونمت في دواخلنا أكثر فأكثر..
لذا حين نكبر تزْداد مِساحات الحنين في قلوبنا، وكأننا مع مُرورِ الوَقْتِ نكْتشف وجود الحنين للمَرّةِ الأولى، وكأن الحنين هو المَرْحَلة التالية لمَرْحَلةِ الفِراق، المَرْحَلة التي تدْخلها قلوبنا بوَهْنٍ، فتصبح عند الحنين هَشّة كأنها أُنْثى مُصابة بالحُب، فالسنوات لاتكون دائماً هي الحَلّ الأنْسب لإغْلاق الحكايات والجروح، فبَعْضِ الحكايات تكون غير قابلة للنِسْيانِ، وتبْقى ذاكِرتها مُضاءة بالتفاصيلِ، مُصابة بالحنينِ، فنحِنُّ إلى البِدايات، إلى أوائِل الأشْياء في حياتنا، إلى الحكاية الأولى والصُحْبة الأولى والأحلام الأولى والخِلافات الأولى والحَماقات الأولى والاكْتِشافات الأولى، والأحاسيس الأولى، وكأننا نتحوَّل مع الوَقْتِ إلى أشجار حنين تتدَّلى منها التفاصيل الأولى وكأنها ثِمار كامِلة النضج، كلما قطفنا منها ثمرة دخلنا إلى مَرْحلةٍ من العمرِ وانْغمسنا بتفاصيلها وطُقوسها التي كانت يوماً طُقوسنا المُفَضَّلة..
وكأني تحوّلت في هذا المساء إلى شجرة حنين، وكأن الشوق انْهمر بغزارةٍ، كزخات مطر مُفاجِئة أغْرقت قلبي وجَرفته إلى مدن الشوق.
فاشْتقت إلى المطرِ، وإلى الشتاء، وإلى بلد كتبت حُروف اسْمي بَعَفْويّةٍ على جُذوعِ أشْجارهِ..
اشْتقت إلى الطُرقات القَديمة، وإلى الرِفاق، إلى الصغار الحفاة، إلى دِفْء حيطان الحَي العَتيق، إلى السِدْرة المُعمرة في مُنْتَصَفِ الطَريق كأنها امْرَأة مُسِنّة تقاوم هُجوم الزمن..
اشْتقتُ إلى صديقة طفولتي، ولدُمْيتي التي كنت أثرْثِر أمامها بِلا َتوَقُّف ظناً مني أنها تسمعني..
اشْتقت لأسْرار مراهقتي ورَهْبة العاطِفة الأولى وخجل اللقاء الأول..
اشْتقت للرسَائِل الورقيّة، ولصَناديق البَريد الزَرْقاء، ولرائِحةِ الحِبْرِ فوق دفْتَر يَوْميّاتي..
اشْتقت لطيبة قلوب الجيران، ولمذاق (كَعْك) جارتي العربيّة ولأحاديث الجارات في مَجْلِس أمي..
اشْتقت لضَجيج الصديقات في أوَّلِ يومٍ ِدراسيّ، ولرائِحةِ الدَفاتِر المَدْرسيّة، ولقلق انْتظار عِقاب المُعلمة، وطابور الصباح، وضَجيج الإذاعة المَدْرسّية، ولصوت جَرس الحِصّة الأخيرة..
اشْتقت إلى صوت أزيز أبْواب المنازل القديمة، وإلى صوت عَصا جدي على الأرضِ، وإلى هَمْهَمة جدتي في صَلاة الفَجْرِ..
اشْتقت إلي أفْراح العيد الحقيقيّة، وأَفْراح العمر التي لم تتكرّر.. وتفاصيل زمن
أُسْدلت ستائره، واخْتلفت طُرق أصحابه ونِهايات أهْله..
قبل النهاية بقليل:
حين تُصاب أرواحنا بالَوهْنِ، نكْتشف أَشْجار الحَنين!