الراحلون الأعزاء

شهرزاد

تبَّاً لهذه الليلة الثقيلة جداً، إنها تدفعني نحو الكتابة عن الفَقْدِ بقوّةٍ، على الرغْمِ من يقيني أن الكتابة ليست دائماً هي الطريقة المثلى للخروجِ من نوْباتِ الحزن، فهناك حالات حزن تبْتلع أرواحنا بشدةٍ، تَقْضِمُ الجزء الأكبر من قلوبنا، تؤلمنا كثيراً، أكثر من قدرتنا على التعبيرِ، وتكرر قذف أرواحنا في متاهات الفقْدِ، فلا نهاية لحالاتِ الفقْدِ، وكلما امْتَدَّ بنا العمر كنا أكثر عُرْضة لفقدانِ المزيد من الأحبةِ، وأكثر عُرْضة لخوضِ حالات عِدّة من الفراقِ وتَكْرار تجرُّع حزنها.

فبعض الوداعِ يتجاوز حدود الألم، ولا يشبه وداع القطارات، تلك المشاهد التي يتم تصويرها فوق محطات الوداع، حيث يتم تبادل الوعود وباقات الورود والكلمات المتبقيّة في قلوبنا، والوعود المُطَمْئِنة قبل صفارةِ الرحيل الأخيرة.

وبعض الوداع شبيه بتلك المساحات الساشِعة التي نركض عليها في أحلامنا حُفاة، دون أن تنتهي، ودون أن نصل إلى فتحة الضوء التي تبشرنا باقْتِرابِ الفرج، وباقْترابِ لحظة التنفس بعد ذلك الاختناق، الذي نال من أرواحنا فترة طويلة.

أمَّا أصعب أنواع الوداع فهو ذلك النوع الذي يقوم ببطولته أقرب الناس إلينا، أحبتنا الأعزاء الذين لم نهيئ أرواحنا لفكرةِ رحيلهم، ونجد صعوبة في التأقلمِ مع واقع فراقهم، ويُخيَّلُ إلينا أن رحيلهم هو الفصل الأخير من الحياةِ.

لكن الحياة تستمر، ولا تتوقف عند تلك اللحظة الثقيلة من عمرِ الزمن، اللحظة التي قلنا فيها وداعاً، ولوَّحنا بأيادينا رغماً عنا، فهناك رحيل لانملك القدرة على منعهِ أو رفضه، هو يأتي كقدرٍ مؤلم، ويحوِّل الأرض إلى مساحاتٍ خاوية، تتحوَّل مع الوقتِ إلى غابات مرعبة، تغني فيها أرواحنا مَواويل الرحيل، فالحياة التي تستمر حولنا، قد تتوقَّف في دواخلنا، فبعد رحيلهم نتعرض لنوباتٍ من الحنين المؤذي، فنحنّ إلى كل التفاصيل المتعلِّقة بهم، نحنّ إلى وجوههم وأصواتهم وأماكنهم المفضَّلة، نحنّ إلى حواراتهم ومناقشاتهم وضحكاتهم ونوبات غضبهم، نحنّ إلى حماقاتهم التي لم نكن نراها قبل أن نقول وداعاً، فكل الأحداث حين نتبعد تصبح شديدة الوضوح فجأة، وكأنها اغْتسلت بعد رحيلهم من شوائب السنوات، وكأن الحياة لم تعد على عهدها القديم معنا، وكأننا نعيد اكتشافها بعد الفراقِ من جديدٍ، فالذين فقدوا آباءهم أدركوا أن الحياة بِلا أبٍ باردة جداً، والذين فقدوا أُمَّهاتهم أدركوا أن الحياة بِلا أمٍّ مرعبة جداً، والذين فقدوا فلذاتهم أدركوا أن الحياة مزيفة جداً، كما أدرك الذين فقدوا إخْوتهم أن الحياة بِلا إخْوةٍ موحشة بِلا حدٍّ..

قبل النهاية بقليل:
الموت حكاية وجع.. إن رحلنا قبلهم أوجعناهم، وإن رحلوا قبلنا أوجعونا.