منذ بداياتِ السينما، لم تكن الأزياءُ مجرَّد تفاصيلَ تُكمل الصورة، بل شكَّلت لغةً بصريَّةً موازيةً للكاميرا نفسها، تنقلُ أفكارَ المخرجين، وتكشفُ شخصيَّاتهم بقدرِ ما تفعلُ عدساتهم، بل إن بعض المخرجين لم يكتفوا بصناعةِ مشاهدَ خالدةٍ، إذ صنعوا من خلالها أيقوناتٍ للموضة، سبقت دورَ الأزياءِ نفسها.

لن تنسى الذاكرةُ السينمائيَّةُ الإطلالةَ السوداءَ الأسطوريَّة لأودري هيبورن في Breakfast at Tiffany’s، من رؤيةِ بليك إدواردز، فهي جمعت بين الأناقةِ والبساطة، وترجمت ذلك يدُ المصمِّمِ الفرنسي الكبيرِ هوبرت دو جيفنشي، بإشرافٍ من إديث هِد على أزياءِ الفيلم. تلك الإطلالةُ تحوَّلت حقاً إلى رمزٍ خالدٍ في الذاكرةِ البصريَّة.
وبعد عقودٍ، أعادت آمي هيكرلينج في Clueless توظيفَ الأزياءِ بوصفها أداةً لبناءِ عالمِ بيفرلي هيلز المُبالَغِ فيه، فحوَّلت إطلالاتِ شخصيَّاتها إلى مرجعٍ خالدٍ لجيلٍ كاملٍ من المراهقات.
وبين هذه النماذجِ وغيرها، تمتدُّ خيوطٌ دقيقةٌ بين عدسةِ المخرجِ وخزانةِ الأزياء، خيوطٌ تنسجُ ملامحَ الموضةِ على الشاشةِ قبل أن تصلَ إلى العالمِ الحقيقي.
بين السيناريو والشخصية

في عالمِ السينما، لا تبدأ الأزياءُ من القماشِ، بل من النصِّ، فمصمِّمُ الأزياء، يقرأ السيناريو كما يقرأ الممثِّلُ الشخصيَّة، ويُفسِّر دوافعها، ومزاجها، وتحوُّلاتها النفسيَّة، ليُحوِّلَ ذلك إلى قطعٍ ملموسةٍ، تُعبِّر عن رحلتها على الشاشة. من هذه الزاوية، تصبحُ الخزانةُ امتداداً للشخصيَّة، وليست ديكوراً خلفها.
ومن أبرزِ مَن جسَّدوا هذا التوجُّه باتريشيا فيلد، إذ حوَّلت الملابسَ في أعمالٍ مثل Sex and the City، وThe Devil Wears Prada إلى لغةٍ بصريَّةٍ. هي لم تكن تختارُ الفستانَ، أو المعطفَ للأناقةِ فحسب، بل حتى تقولَ أيضاً شيئاً عن التحوُّلِ الداخلي للبطلة. في The Devil Wears Prada، نرى «آندي» تنتقَّلُ من فتاةٍ خجولةٍ بألوانٍ باهتةٍ إلى امرأةٍ واثقةٍ، تتقنُ «لغةَ» الموضة. رحلةٌ بصريَّةٌ، تعكسُ نضوجها الشخصي أكثر مما تعكسُ ذوقَها في اللباس.
يمكنك الاطلاع على الموضة والأوبرا وعالم السوبرانو المبهر.. من يدين للآخر بالنجاح؟

الموضة بوصفها عنصرا درامياً

عندما تتحوَّلُ الملابسُ من عنصرٍ مكمِّلٍ إلى لاعبٍ رئيسٍ، تصبحُ حينها جزءاً من الحكايةِ ذاتها. في The Great Gatsby للمخرج باز لورمان، صمَّمت كاثرين مارتن أزياءً، تُشبه الحلمَ الأمريكي الذي يتهاوى من الداخلِ: مبهرٌ من بعيدٍ، وهشٌّ عن قربٍ. وبالتعاونِ مع Prada وBrooks Brothers، ومجوهرات تيفاني أند كو. Tiffany & Co.، صنعت مارتن عالماً بصرياً، يعكسُ بريقَ الثلاثينيَّاتِ المُضلِّل حيث الأناقةُ تُخفي الانكسارَ الطبقي والنفسي.
وفي Barbie للمخرجةِ جريتا جرويج، استخدمت جاكلين دوران الأزياءَ بوصفها لغةً فلسفيَّةً، تربطُ بين الخيالِ الوردي في «باربي لاند»، والواقعِ الرمادي خارجها. ألوانُ الباستيل، والفساتينُ اللامعة، لم تكن للزينة، بل من أجلِ تجسيدِ رحلةِ وعي، من سذاجةِ البلاستيك إلى اكتشافِ المعنى الحقيقي للذات. حتى اختيارُ «صندل بيركنستوك»، كان علامةً على خلعِ القشرةِ الورديَّة، والتصالحِ مع الواقع.
من الشاشة إلى الشارع

السينما لا تكتفي بصناعةِ الخيال فقط، بل وتصنعُ أيضاً السوق، فما يظهرُ على الشاشة، يجدُ سريعاً طريقه إلى واجهاتِ المتاجر.
وفي الأعوامِ الأخيرة، أسهمت مسلسلاتٌ مثل Euphoria، وEmily in Paris في إعادةِ تعريفِ علاقةِ الجمهورِ بالأزياء، فقد أطلقَ Euphoria، من إخراجِ سام ليفنسون، وتصميمِ هايدي بيفنز، موجةً من الجرأةِ في الألوانِ والمكياج، انعكست مباشرةً على مبيعاتِ العلامات. في حين حوَّلَ Emily in Paris شوارعَ باريس إلى منصَّةِ عرضٍ مستمرَّةٍ برؤيةِ باتريشيا فيلد، وماريلين فيتوسي اللتين أعادتا تقديمَ «الكليشيه الباريسي» بأسلوبٍ معاصرٍ مليءٍ بالمبالغةِ المرحة. عليه، يتضحُ أن الموضة، لم تعد تخرجُ من دورِ التصميمِ فقط، بل وأيضاً من مشهدٍ سينمائي قديمٍ، أو حلقةِ مسلسلٍ جديدةٍ.
ما رأيك بالاطلاع على البوب بنوتات عربية.. ولادة هويَّة موسيقيَّة جديدة
المرأة أمام الكاميرا
لطالما كانت الموضةُ في السينما مرآةً لتطوُّرِ صورةِ المرأةِ وموقعها في المجتمع. من أودري هيبورن، التي رسمت مع جيفنشي ملامحَ الأنوثةِ الراقيةِ الهادئة، إلى سارة جيسيكا باركر، التي جعلت من «كاري برادشو» صوتاً لامرأةٍ، تملك حريَّتها وهوسَها الجميلَ بالأناقة، استمرَّت الأزياءُ وسيلةً للتعبيرِ عن الذاتِ الأنثويَّةِ في كلِّ زمنٍ.
قصة فستان Atonement الأخضر
في دراما الحربِ والرغبةِ Atonement «جو رايت 2007»، لم يكن الفستانُ الأخضرُ الذي ارتدته كيرا نايتلي مجرَّد زي أنيقٍ فقط، إذ شكَّل أيضاً عنصراً أساسياً في بناءِ المشهدِ الأيقوني للفيلم. حين طلب رايت من جاكلين دوران فستاناً «لا يُنسى»، ابتكرته ليتحرَّك مع الكاميرا لا ضدها. كان الأخضرُ نتاجَ تجربةِ ضوءٍ وعدساتٍ أكثر من كونه اختياراً جمالياً، وعلامةً على الشغفِ والخذلانِ في لحظةٍ واحدةٍ. في اللقطةِ الطويلةِ بالمكتبة، يتحوَّلُ الفستانُ إلى شريكٍ في المشهد، يروي ما تعجزُ عنه الكلمات، ويبقى في الذاكرةِ بوصفه من أكثر الأزياءِ تأثيراً في تاريخِ السينما.
يمكنك أيضًا الاطلاع على الإبداع في صناعة الأزياء والسينما
معطف ونظارات The Matrix الخالدة

مع كِم باريت، تحوَّلت أزياءُ The Matrix إلى معجمٍ بصري لفلسفةِ الأخوين واتشاوفسكي. المعاطفُ الجلديَّة، صُمِّمت لتعكسَ الضوءَ بوصفها مرآةً بين عالمَي الواقعِ والمحاكاة، بينما حملت النظَّاراتُ العاكسةُ معنى الهويَّةِ والزيف، فكلُّ عدسةٍ ترى عالماً مختلفاً. في مشهدِ «الحبتين» الشهير، يظهرُ انعكاسُ الأحمرِ والأزرقِ على عدستَي مورفيوس، ليُختَصر الفيلمُ كلُّه في انعكاسٍ واحدٍ. هكذا صار الجلدُ، والانعكاسُ، واللونُ أدواتِ إخراجٍ بقدرِ ما هي أزياءٌ، تصنعُ الموقفَ قبل الحوار.
قطع تحوّلت إلى أساطير بصرية
- الفستان الأسود – Breakfast at Tiffany’s 1961: في رؤيةِ بليك إدواردز، لم يكن فستانُ جيفنشي على أودري هيبورن افتتاحيَّةً مبهرةً فحسب، بل وجاءت أيضاً إعلاناً عن مزيجِ القوَّةِ والهشاشةِ الذي يُكوِّن «هولي جولايتلي».
- البدلة الرجالية والقبعة – Annie Hall 1977: اختارت ديان كيتون أزياءَها مع روث مورلي، لتصوغَ شخصيَّةً، ترى الحريَّةَ في التناقض: البنطالُ الواسعُ، والسترةُ الذكوريَّةُ امتدادٌ لفلسفةِ الفيلمِ عن الحبِّ والاستقلال.
- البدلة الصفراء المربعة – Clueless 1995: تجعلُ آمي هيكرلينج من بدلةِ مونا ماي الصفراءِ تعريفاً بصرياً لمرحِ ما قبل النضج. تارتان صارخٌ، يشي بعالمٍ سطحي، لكنَّه منظَّمٌ، تبني «شير» عبره شخصيَّتها بخزانتها.
- فستان الزفاف الأبيض – Sex and the City 2008: حين ارتدت كاري برادشو فستانَ فيفيان ويستوود الضخم، جعل مايكل باتريك كينج الأزياءَ جزءاً من الأزمةِ نفسها: الحلمُ والخذلانُ في لحظةٍ واحدةٍ.
- فساتين «جاتسبي» – The Great Gatsby 2013: هنا يُوظِّف باز لورمان أزياءَ كاثرين مارتن المرصَّعةَ بوصفها صدى بصرياً للحلمِ الأمريكي. كلُّ خرزةٍ ولمعةٍ، تُلمِّح إلى وهمِ الترفِ وسقوطه.
هذه القطعُ وغيرها، خرجت من الخيالِ، لتعيشَ في الذاكرةِ الجماعيَّة، لا لكونها أنيقةً فحسب، بل ولأنها عكست روحَ الشخصيَّةِ بعمقٍ، ونطقت بلغةِ السينما دون أن تقولَ كلمةً واحدةً.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط





