mena-gmtdmp

الأسر المُحكَم!

صاحب العمارة رجُل طيب، ودائمًا يُبلغ قاطني عقاره أنهم قلَ أن يجدوا مثله، حتى وإن لفوُا الكرة الأرضية! وهذا واقع، فهو - مالك العقار- دائمًا ما يُقدم خدماته الفريدة باستمرار، فينتظر حتى الساعات الأولى من الليل ويغلق باب عقاره الحديدي الكبير إغلاقًا محكمًا، وبالرغم من أن السكان يشعرون أنهم في أَسرٍ حديدي محكم، إلا أنه يبلغهم أنه يحافظ على الباب خوفًا من كثرة أو سوء الاستخدام، وأنه في ظل الارتفاع العالمي لأسعار الحديد، فتلك البوابة الحديدية معرضة للسرقة، كما أنه يحفظ أولاد السكان من الضياع أو الخطف، في ظل انتشار شائعات خطف الصبية الأطفال، وعندما يسمع أية أصوات هامسة من إحدى شقق العمارة، يذهب مسرعًا ويدق أبوابهم ليستفسر ويتحرى عن تلك الهمسات الصوتية، خوفًا من اللصوص والأشرار! وإذا سمع أصواتا صادرة عن إحدى شقق العقار في منتصف الليل أو آخره، يستيقظ منزعجًا ويقتحم عليهم شقتهم، ويبلغهم أن ذلك لمصلحتهم وللاطمئنان الشديد عليهم! وعندما يأتي أحد الضيوف لأحد السكان، يستوقفه ويحقق معه، ويصحبه إلى الشقة المقصودة، ويسألهم أتعرفونه؟ ولمَ الزيارة؟ وهو يقول إن في ذلك حفاظًا علي الأرواح والممتلكات والأسرار! وهو -مالك العمارة- يفتح المصعد مرة واحدة مساء أحد أيام الأسبوع، وللصعود فقط! ويغلقه باقي الشهر، ويقول إنه يحافظ على دوام ذلك الاختراع المتقدّم، وهو بذلك يحقق عدة فوائد، فيقلل من استهلاك الكهرباء، ويحفظ عنصرًا مهمًا من عناصر الطاقة الوطنية، كما أنه يحقق الصحة والرياضة للسكان في صعود ونزول السلم، وينبغي عليهم أن يكونوا متلطفين به، أي بالسلم! وقبل حلول ميعاد الإيجار المستحق بشهر على الأقل، فإنه يذكّر قاطني العمارة عشرات المرات بالإيجار المستحق على كل منهم، ويقول إن الذكرى تنفع المؤمنين، وعنده حق، حيثُ يقدم خدماته المستمرة الجليلة للسكان، وكثيرًا ما يقوم بقطع المياه عن السكان عمدًا، ويقول إنه يحافظ عليها داخل الخزانات حتى تنفعهم في أوقات قطع المياه! وحتى تظل معتقة معقمة من أجل المحافظة على صحة السكان، وكثيرًا ما يترك خزانات الصرف الصحي للعمارة تمتلئ حتى «تطفح» وتصدر عنها روائح كريهة، وتتجمع على إثرها الحشرات الطائرة والزاحفة، فيحافظ بذلك على نظام التوازن البيئي! وقد استطاع إقناع السكان بإبقاء مدخل العمارة خاويًا من السيارات، وذلك بركن سياراتهم بعيدًا، لعدم تشويه مدخل العقــار، والإبقــاء علـيـه خــاويًا جميلا، ولا مانع من مضايقة جيرانه الآخرين! وسيضطر السكان لممارسة رياضة المشي المفيدة باستمرار.

وفي إحدى المرات، طَفَحَ به الكيل، حيثُ مرض أحد أبناء السكان فجأة بعد منتصف الليل، وكان لابد من نقله للمستشفى، مما اضطرهم لإزعاج المالك الطيب الأليف متأخرًا ليلا لفتح باب الأَسر، أعني باب العمارة الحديدي المحكم! وقد آلمه كثيرًا أن أحد السكان طلب منه أن يفتح له باب سطوح المنزل، لتثبيت طبق الاستقبال الفضائي «الدش»، وقال للساكن كأنك ستدق المسامير في صدري! والرجل له مبرراته، فهو يخاف على سكان الدور العلوي والبيت بأكمله من الإزعاج، وخوفًا من سقوط السقف على رؤوسهم، ويحفظه من أن يرشح على السكان ماء الأمطار أو عندما تفيض الخزانات، كما أن تلك «المسامير» و«الخوابير» الصغيرة، التي ستثبتُ الطبق فوق سقف البيت، ستؤثر سلبًا علي البناء الخرساني الضخم، وتجعله ربما آيلا للسقوط، فرفض حفاظًا على أرواح الناس، وقد حزّ في نفسه كثيرًا أن بعضًا من السكان أرادوا توصيل خدمات الاتصال بالإنترنت المختلفة، ورفض في البداية، ولكنه أخيرًا ترأف وتفهم رغبتهم، وطلب إعطاءه مهلة للتفكير، وقد أزعجت وآلمت تصرفات هذا المالك إحدى زوجات ساكني العقار، ولكن الزوج أقنع زوجته بصعوبة نقل الأثاث وتكلفته الباهظة، وبأزمة السكن المحلية والعالمية، وأن ما يعرفونه أفضل ممن لا يعرفونه!