mena-gmtdmp

جدران الفصل

حسبت أن المناخ في ذلك البلد الذي زرتُه قبل أيام قد تغيّرَ، ولن تتكرّرَ الحادثةُ التي حوّلتُها الى قصّة؛ وذلك في إثر ما جرى للرفيقة الإفريقية السمراء.

<<<

 

وكانت هي مدعوّةً الى المشاركة في ندوةٍ أدبية تدورُ حول كتابةِ القصّة والرواية.

وهي من أشهر كاتبات بلادها. وجاءتْ برفقتها زميلةٌ من دولة أفريقية مجاورة، اضطرّها موعد سفرها الى مغادرة الفندق قبلها؛ وهذا ما جعل صاحبتها تُصابُ بالذعر. وسألتني إذا كان بالإمكان أن تنتقلَ الى غرفتي في ما بقي لها من الوقت.

ولم يدرْ في خلَدي أن يكون الخوفُ دافعَها الى ذلك السؤال.

<<<

 

وحين قالت إنها تخشى أن تنام، إذ ان الخوفَ يغزو حتى أحلامها، لم أصدّق، وحسبتُها تبالغ.

وهذا ما قلتُ لها، وأضفت: أنظري حولَك، نحن بين قوم متحضِّرين، لطفاء. وأنتِ ضيفةٌ مكرّمة، ولا داعي لهذا الخوف.

أصغتْ اليّ، وهي تتأمّلُني بنظراتِ الشكِّ، وكأنّها تقول:

ـ وماذا تعرفين أنت عن الخوف الراسخ في العظام، والمتململ بين قطراتِ الدماء في عروقِِنا؟...

وبمثل صبرِ الكبار حين تواجهُهم سذاجةُ الأطفال، راحت تروي:

ـ قلتِ إنك تريدين ان تعرفي أين يكمنُ مصدرُ الخوف؟

صحيح نحن نزور بلداً متمدّناً، وترعى أنظمتُهُ حقوقَ الإنسان.

لكن ما يُطالعُنا، كل يوم، في وسائل الإعلام، من أعمالِ عنف، يجعلُنا نبقى حذرين؛ خصوصاً أن ما مرّ بنا، عبرَ التاريخ، من التفرقةِ العنصرية، لا يزالُ مغروساً في كياننا.

<<<

 

وبقيتْ خائفة، رفيقتي اللطيفة والذكية. وكانت تتأمّلُ وجوه الناسِ في القاعة، وتتقلّصُ داخلَ كيانها. وكان ذلك شأنَها كلما غادرنا قاعة المؤتمر.

أدركتُ معنى خوفِها عندما لاحظتُ، كيف ان العيون تتّجه الى الركن الذي اخترناه، في تلك الصبيحة، ونحن نجلس الى مائدةِ الفطور.

وكانتِ العيونُ تسجّلُ الصدمةَ، والتساؤل، وكأنها تقول: من تكون؟ ولماذا هي هنا؟

<<<

 

وتلك السيدة، التي حوّلتْ تجربتَها الى قصص وروايات، غادرتْ وطنَها بحثاً عن الحرّية، في بلد يُشاعُ أنه وطنُ الحرية، لتكتشفَ بأن الحرّيةَ الفردية ليستْ سوى كلامٍ، والحقيقةُ تكمن في مكان آخر.

<<<

 

لست أدري لماذا عادتْ إليّ ذكرياتُ ذلك اللقاء مع الصديقة الافريقية قبل عشرِ سنوات، وأنا واقفة في صفٍّ طويل، أمام قاعة المغادرة في مطار البلد المضيف.

كنت بانتظار الصعود الى الطائرة المقلعة الى بيروت. وكان مُعظمُ المسافرين من بلدي، وأعمارُهم تتراوحُ بين المسنين الذين قدِموا، ربما، لزيارة أبنائِهم العاملين في ذلك البلد، والأسر المنتقلة مع الأولاد، لزيارةِ الأهل في الوطن الأمّ.

وتدلُّ لغتهم الى موطنهم. كما تُفشي أزياؤهم، بأنهم غرباء.

<<<

 

ووقفوا جميعُهم، في صفّ الإنتظار، ساعة.

ومثلهم وقفت، من دون أن نُعطى سبباً.

وكما أُخضعَ كلُّ فردٍ للتفتيش الدقيق، خضعت.

واقتنعت انها إجراءاتٌ لازمة، وتفرضها سياسةُ هذا الزمن الذي يسودُه التخويف والإرهاب.

وبقيتُ، على مدى ساعة الإنتظار تلك، أحلمُ بمقعدٍ مُريح، وشربةِ ماء تنقعُ الغلّة.

<<<

 

واكتشفتُ أن المفاجأة التي كانت تنتظرنا في قاعة الرحيل، أسوأ من كلِّ ما عرفت؛ فالقاعة أشبه بغرفة العزل الإنفرادي: لا نافذة لها ولا باب، سوى باب الخروج صوبَ الطائرة.

كذلك لم يكن هناك أيُّ ملاذٍ لحاجة طفل أو عاجز، وكأنّما الجهة التي سنّت قانون السلوك، هناك، تحسبُ ان القوم مذنبون سلفاً، ويستحقون السجنَ والعذاب.

<<<

 

وأتساءل: تراهُ مناخ العصر، وتكون تلك هي الضريبة التي يتوجّب على الإنسان ان يدفعَها، كلما تاق الى السفر؟!...