في اكتوبر عام ستة وستين اعتقلت المباحث العامة مجموعة من المثقفين، يمكن اعتبارهم ألمع مثقفي الستينيات، كان بينهم الأبنودي، وسيد حجاب ويحيى الطاهر عبدالله وجلال السيد وسيد خميس ومحمد عبد رب الرسول وغالب هلسا وغالي شكري وإبراهيم فتحي وصبري حافظ وآخرون.
كانت الأحزاب اليسارية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي المصري، وحركة التحرر الوطني الديمقراطي (حدتو) قد أعلنت عن حل نفسها والاندماج مع التنظيم الوحيد والعلني الرسمي، الاتحاد الاشتراكي، غير أن تنظيمًا صغيرًا متشددًا رفض قرارات الحل، واستمر في العمل السياسي، كان اسمه «وحدة الشيوعيين»، عندما اعتقلنا في أكتوبر كانت صلة معظمنا قد انتهت، ولكن أحد الزملاء (كاتب قصة بالعامية) مرّ بظروف مالية حادة، وقام بتسليم المباحث العامة قائمة بأسماء من يعلم أو يشك في أنهم أعضاء بهذا التنظيم، وكان بعضهم ما زال عضوًا به، والبعض الآخر ترك.
هكذا ضمت تلك «الحبسة» مجموعة مختلفة من اليساريين، منهم عدد يدخل المعتقل لأول مرة -ومنهم كاتب هذه السطور- وعدد من الأعضاء القدامى في وحدة الشيوعيين، منهم علي الشوباشي، وكان الهدف هو محاولة استكشاف الصلة بين القدامى والجدد، أذكر أن علي اقترب مني في أول يوم، وطلب مني أن أحذر من الحديث؛ لأن بعض الزملاء يمكن أن يكونوا على صلة بالإدارة، وينقلوا إلى المباحث ما يدور، وما يمكن استخلاصه من معلومات، كنت في الحادي والعشرين من عمري، ورغم تجربتي المبكرة في العمل السياسي إلا أنني كنت على قدر لا أنكره من السذاجة، فلم يكن سهلاً اقتناعي بوجود زميل معتقل ويعيش نفس ظروفنا ومعنا، ودوره أن يبلغ المباحث بما يجري، لكن لم يمض وقت طويل حتى رأيت ذلك بأم عيني.
لم يكن علي الشوباشي له علاقة بالمجموعة الجديدة التي تدخل السجن لأول مرة، ولكن بدا هادئًا، لا يظهر تبرمًا ولا ضيقًا، يحرص على تقديم المساعدة، ويشارك في الحياة العامة، ذلك النظام الذي طبقه اليساريون في المعتقلات، ويقضي بمشاركة الجميع في كل ما يصل إلى المعتقلين من نقود أو غذاء، كان أنيقًا في ملابس المعتقل، تلك الأناقة التي تعد من سماته، سواء كانت الأيام صعبة أو ميسورة، كان يطرق كثيرًا، ويبدو هائمًا راحلاً إلى الداخل، يتفجر حماسًا إذا شارك في مناقشة أو أبدى رأيًا أو اتخذ موقفًا. كان المطلوب من المعتقلين في تلك الحبسة عكس المطلوب منهم في حبسة عام تسعة وخمسين، كان المطلوب الإعلان عن عضوية ذلك التنظيم، والاعتراف باعتناق الفكر الماركسي، كان يعني ذلك إثبات استمرار اليسار في العمل السري، ويعني أيضًا تقديمنا للقضاء ليحكم على كل منا بأحكام تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة.
جرى ضغط عنيف في معتقل القلعة المخصص للتحقيق، وكان الضغط مركزًا على الأسماء الجديدة، وتحمل صلاح عيسى ومحمد عبد رب الرسول ما لا يطيقه بشر، الأول بسبب مقالات كتبها في جريدة الحرية اللبنانية حول ثورة يوليو، أثارت استفزاز القيادة السياسية في ذلك الوقت، والثاني لضبط منشورات قديمة صادرة عن ذلك التنظيم، والحديث عن تلك الأيام يطول، وربما كان الوقت قد حان ليكتب من بقوا على قيد الحياة شهاداتهم، فقد بدأ رحيل جيلنا، ولن تمضي سنوات معدودات إلا ويطوينا النسيان، ذلك الجيل الذي عاش ظروفًا صعبة منذ أن تفتح وعي أفراده على حقائق الوجود، وقضايا المجتمع وأحوال الخلق.