mena-gmtdmp

مبروك، وجدنا لك قلبا!!


"أريد أن أعيش، ولو ليومٍ واحد"!!

جملة يرددها الباحثون عن قارب نجاة يعود بهم إلى مرفأ الحياة، أمّا الأطباء فلا حول لهم ولا قوة بعد أن حوّلوا ملفاتهم المعتادة إلى قائمة لتسجيل أسماء من وقفوا في الطابور، مجيبين كل من استغاث بهم، في كلماتٍ شحيحة، يجب أن يتم زراعة قلب سليم في أقرب وقت!!

تفاصيل حملتها حلقة من البرنامج الأمريكي الشهير «الأطباء»، والتي كانت مؤثرة بل مثيرة للشجن، مضينا مع أبطالها ورأينا محطات ومشاهد رحلة قاسية لزراعة قلب إنسان لإنسان آخر، وما أرهبها من رحلة!!

شابة في الثلاثينات، جميلة لكن بلهاث وأنفاس مُتهدجة مؤلمة تُناديك أن تعانقها ابنة وحبيبة وقد أشعلت فيك كل مشاعر الإنسانية مجتمعة، ورجلٌ ستيني، منهك أرهقته الدنيا، ما بين فيروس، أو كولسترول، أو صمّام متهرئ لم يعد يؤدي المهمة على الوجه المطلوب، لتبقى المحصلة واحدة، فشل في القلب!!!

قائمة الموتى مع وقف التنفيذ ينتظرون جميعهم أن يجدوا قلبًا ولو للإيجار!! الكل يترقب، ذاك يُحادث ابنته الجميلة ويُخبرها بأنه يُحبها وأنه يشتاق لعناق عينيها كثيراً، وزوجة تئن شوقاً لبيتها بعد أن هجرته وهي لا تعرف تاريخ العودة، لتتوالى المشاهد.

تساوت الأعناق وجفت الصحف، لا عمل للأطباء بعد اليوم، الكل في انتظار مكالمة، مبروك وجدنا لك قلبا، جملة تحيي الأمل وتعيد الحياة لمن باتوا على شفى حفرةٍ من الموت!!

بيد أن أغرب تلك الصور وأكثرها وقعاً في النفس، كان ذاك المشهد المؤثر، لأبٍ متوفى سريرياً إثر حادث مريع وهو في ريعان الشباب، لكن قلبه لازال ينبض في جسده الميت، وقائمة الانتظار تُنادي، والعيون المتشبثة بالحياة تحلم بمن يُنعش الآمال ويطرد كابوس الموت القاتم، فتوافق الزوجة الجريئة على أن تتبرع بقلب زوجها الغالي، وتتم العملية بنجاح.

نرى بأم القلب الناجي من جسدِ هلك، وقد وضع في الثلج، وحُمل في حقيبة مُحكمة، وقد أخذ ينتفض بسرعة في أيدي حامليه. أتراه كان ينبض بتلك السرعة المُخيفة، حزيناً أنه فارق جسد صاحبه لأول مرة، أم وجلاً من سكنى قادمة غريبة، وسط كيانٍ لا يعرف عنه شيئا!!؟

وتمضي اللحظات العصيبة، تتم عملية الإحلال المعقدة، استبدال قلب المتوفى سريرياً لإنسان آخر يرجو الحياة، وتنتهي فصول العملية . تمر فترة النقاهة ويأتي المشهد المؤثر الذي انتظره الجميع، زوجة المتوفى تقف لترى من أخذ قلب حبيبها، وابنته ذات خمس السنوات تأتي هي الأخرى لتقابل من أخذ قلب الأب الراحل الذي أحبته، والرجل الخمسيني ينظر في دهشة، في موقف تشابكت فيه المشاعر .

لحظات حياة وموت تتعانق في رهبة وحذر، حبٌ واشتياق، تُرى هل ارتمت الابنة الجميلة على صدر من حمل قلب أبيها، وعانقته مشتاقة لأن تسمع نبضه الغائب يأتي من صدر الغريب، أما تُراها كانت تُعانق أباها القادم من حيث الرحيل وقد ظنت أن القدر بعثه إليها من جديد؟!!

أمّا في خلفية المشهد فكانت صورة الأب الغائب تتوالى من ألبوم الذكريات، تتلاحق فتُذرف لها الدموع، وأمام الحضور كان الجسد الذي يحمل القلب الجديد، يجلس على الكرسي دامعاً مبتسماً بعد أن أعادته الأقدار إلى ماراثون الحياة. هو يتلعثم لا يعرف ماذا يقول، هل يشكر من مات ووهبه حياةً جديدة، أم يشكر الظروف بعد أن كتب له القدر فرصة وأُسرة لم يعرفها من قبل، وقد غدت تُبادله الحب دون سبب، سوى أنه يحمل قلب الأب الحبيب الذي رحل للأبد!!

ابتسامات ودموع، وداعٌ ولقاء ، عيونٌ تغرب عنها الشمس، وأخرى يبرق في سمائها الحلم فيحيل ليلها شروقاً وأملا، أحاسيس ومشاعر، ومشاهد تتلاحق، ولا نملك أمامها إلا أن نبتسم وندمع ونتفكّر.

ماذا عسى أن نقول نحن أصحاب القلوب السليمة بعدما رأينا وسمعنا وعِشنا تلك المشاهد، ولم نقف يوماً على محطة الوداع في حين أن خمولنا وحججنا الجاهزة سلفاً، دائما تسبقنا؟!!

ما أجمل الحياة في حنايا سجدة، في ظُلمة الليل نقول فيها الكثير لمن بيده مقاليد الأمور. ما أروع تمتمة رضا لحظة بزوغ فجر نُجدد فيه العهد وقد وقفنا على شرفة الحياة باسمين مُستعدين للمُضي قُدماً متحدين كل صعب، ما أروع سواعدنا التي تمتلئ شباباً وحيوية وقلوباً تضخ الدماء في عروقنا، تجعلنا نتأهب للانقضاض على التحديات بلا كسلٍ أو برود رغم كل ما يحوطنا من محبطات وعوائق. فننطلق كالخيل الجامح.

حان الأوان أن ننتفض ونكسر كل حاجز يمنعنا من تحقيق أحلامنا، لا عذر اليوم، لك قلب وبيديك نبض وفي صدرك حلم.

دمتم أصحاء بعافية؛ من أجل عطاءٍ يتعدى حدودنا الواهنة، علّ ذكرانا تبقى تحوط أبناءنا من بعدنا في حبٍ وشوق ،

ودام قلب الوطن بألف خير.