القراءة من زوايا أخرى

يوسف بخيت


كل من يقرأ هذه السطور؛ قد حظي بنصيبه من التعليم، سواء كان قليلاً أو كثيراً، ولا فرق في القراءة العابرة للنصوص بين من يحمل شهادة عليا أو شهادات أقل، وقد عبّر البسطاء عن تواضع الحد الأدنى من التعليم بقولهم: «فلان يفك الخط»، ويقصدون بأن الشخص لديه القدرة على قراءة المكتوب واستيعاب محتواه، وهذا تعبير في غاية الجَمال، وتصوير في منتهى الحُسن، وكأن (فك الخط) شبيه بمن يستطيع فك عدد من العُقد في حبل طويل، حتى يغدو مستقيماً خالياً من أية عقدة، والمستوى الأعلى في القراءة؛ مقدرة القارئ على الإحاطة التامة بمضمون ما يقرؤه، والتقاط المعاني القريبة والبعيدة للنص، بل واستيعاب معانٍ أبعد يدل عليها النص، وإن لم تستوعبها صفحاته.


لا تقتصر القراءة عند ذوي الألباب على استنطاق ما في الأوراق والكتب، بل تتعدى إلى القراءة من زوايا أخرى عديدة في هذا الكون الفسيح؛ وذلك بإطلاق الحواس لتلتقط الصور والأصوات والمشاهد التي لا حصر لها في كل يوم وليلة، صور الطبيعة بمخلوقاتها المختلفة، وأصوات الكائنات من بشر وحيوانات وظواهر طبيعية، ومشاهد الحياة في تنوعها واختلاف أحوالها، ولنا أن نتخيل جميعاً الأثر الإيجابي الباقي في النفس والعقل حين نقرأ كتاب الطبيعة ونقلّب صفحات الحياة، وتنتقل أفكارنا بعيداً مع ما نقرؤه ونحظى برؤيته وسماعه، على بساطة هذه المناظر، إلا أنها الأنقى والأبقى فينا، نُقل عن «جلال الدين الرومي» قولُه: لعل الأشياء البسيطة هي أكثر الأشياء تميزاً، ولكن ليست كل عين تَرى.


لا ريب أننا قرأنا قصصاً وروايات عن علاقة الأم الوطيدة بأبنائها وبناتها، ومع ما تتضمنه تلك الإبداعات الأدبية من لغة أنيقة وبلاغة ظاهرة، إلا أن قراءتنا لمشهد حقيقي لإحدى الأمهات في مستشفى وهي تواسي ابنتها أو ابنها وتخفف عنه من ألمه، أو رؤيتنا لأم أخرى وهي تساعد طفلها الصغير على استخدام لعبة ما في حديقة عامة يختصر رواية بأكملها، وتظهر فيها التفاصيل الإنسانية على حقيقتها أجمل وأكثر واقعية من رواية تعتمد على خيال الكاتب.
ومع الأهمية الفكرية لقراءة الأدب، إلا أن الالتصاق بالناس ومراقبة الحياة اليومية لهم يمد الأديب خاصة، والإنسان عامة، برصيد ثمين من المعاني الجميلة، ويضيف الكثير لإحساسه بالآخرين.


انغماس المرء في قراءة الكتب بعيداً عن قراءة مشاهد الحياة تسبب له عزلة فكرية ونفسية، تؤثر عليه بشكل سلبي، ليعيش مثاليات لا وجود لها إلا في خياله، أو ترسم صورة سوداء عن واقع تتمازج فيه جميع الألوان والأحوال، وبالتالي تخلق بينه وبين مجتمعه قطيعة ونفوراً، مع العلم أن الثقافة الحقيقية ناتجة عن معايشة الحياة والناس، ونلاحظ بوضوح أن الأديب القريب من الناس يكتب أجمل الأعمال الأدبية وأكثرها صدقاً، ولعل القارئ الكريم يتذكر في هذه اللحظات إبداعات أدبية خالدة، سواء على المستوى العربي أو العالمي، يستوي في ذلك ما حقق منها جوائز عالمية، أو تلك التي لم تنل نصيبها من الشهرة والتكريم.


يا رفيق الحرف، كلما تعلمت القراءة من زوايا أخرى للحياة؛ وصلت إلى أفكار وأماكن أكثر دهشةً وبهاءً، ستجد في تلك القراءات سعادة كبيرة وتذوقاً لنكهة الحياة، وهنا يأتي واجبك في تدريب الذات على هذا النوع من القراءات، بالإضافة إلى القراءة التقليدية للكتب على اختلاف مضامينها، ويقتضي الأمر انفتاحاً ذهنياً على الثقافة بتعدد مشاربها، والانطلاق في مناكب الأرض؛ بحثاً واكتشافاً وتأملاً.