في ظلّ تسارع الحياة الحديثة وتزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، باتت العلاقات العائلية تواجه تحديات كبيرة تهدد تماسكها. فضعف التواصل، والانشغال المفرط بالتكنولوجيا، وتنامي النزعة الفردية أدّت إلى اتساع الفجوة بين أفراد الأسرة، حتى غاب الحوار، وتراجعت روح المشاركة، وحلّ محلّها الصمت أو التباعد العاطفي.
ولأن العائلة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فإنّ الحفاظ على صحتها وتماسكها ليس خيارًا، بل ضرورة ملحّة تضمن سلامة النسيج الاجتماعي برمّته. وبناء علاقة صحّية داخل الأسرة يتطلّب وعيًا وجهدًا متبادلاً، يقوم على أسس متينة من التواصل الفعّال، والتعاطف، والتسامح، والدعم النفسي والعاطفي.
إنّ العلاقة العائلية السليمة لا تُمنح جاهزة، بل تُبنى بالتدرّج، وبالإصغاء، وبالاهتمام الصادق بالآخرين. فكلّ كلمة طيّبة، وكلّ لحظة مشاركة، وكلّ موقف مساندة، هي لبنة في صرح أسرة متحابة متماسكة. ومن هنا تنطلق أهمية السعي الدائم لبناء علاقات أسرية صحية تُعيد للبيت العربي دفأه، وتمنح المجتمع جذوره الإنسانية الأصيلة.
ماذا يقول علم النفس؟

تُعدّ العائلة النواة الأولى في بناء شخصية الإنسان، والبيئة التي ينمو فيها الحبّ، والاحترام، والدعم المتبادل. ومن هنا تأتي أهمية بناء علاقة عائلية صحيّة تقوم على التفاهم، والتواصل، والمساندة، لأن العائلة المتماسكة هي الأساس الذي يقوم عليه مجتمع قويّ وسليم.
تقول فريال عبدالله حلاوي، دكتورة محاضرة ومستشارة في تقدير الذات، إنّ بناء علاقة صحّية للشاب أو الفتاة مع العائلة يتطلّب جهدًا حقيقيًا من جميع أفرادها، إذ لا يمكن تحقيق الانسجام والتفاهم إلا حين يسعى كل فرد إلى تطوير ذاته وتواصله مع الآخرين. ومع الأسف، نلاحظ في أيامنا هذه تراجع هذا الجهد، مما أدى إلى ضعف التواصل وتزايد الفجوات بين أفراد الأسرة.
ولبناء علاقة عائلية صحية بين الشاب أو الفتاة مع العائلة يجب:
ما رأيك متابعة العائلة في خطر...التحولات الأسرية وآثارها المجتمعية
أولًا: تحسين التواصل العائلي
إنّ الخطوة الأولى لبناء علاقة صحية هي تحسين التواصل بين أفراد الأسرة. فالكثير من مشكلاتنا اليومية تنشأ من ضعف الفهم المتبادل وسوء الإصغاء.
التواصل الفعّال لا يعني فقط الحديث، بل يشمل الاستماع الحقيقي للآخرين، والقدرة على فهم مشاعرهم واحتياجاتهم، والتعاطف معهم في مواقفهم المختلفة.
كثيرًا ما يعيش كل فرد في "عالمه الخاص" نتيجة لانتشار الفردية والانشغال بالذات، مما يؤدي إلى غياب الفهم، وقلة الدعم، وانعدام المشاركة في مواجهة التحديات الأسرية.
لذلك، يجب أن نتعلم كيف نصغي بصدق، ونعبّر عن مشاعرنا بوضوح واحترام، لأن التفاهم يبدأ من الإصغاء، وينضج بالحوار الهادئ البنّاء.
ثانيًا: قضاء وقت نوعي مع العائلة
لا تُبنى العلاقات القوية في المناسبات الرسمية فقط، بل في التفاصيل اليومية الصغيرة.
فـ"الوقت النوعي" هو الذي يمنح العلاقة معناها الحقيقي، كتناول وجبة عائلية، أو مشاهدة فيلم معًا، أو القيام بنزهة بسيطة في الحديقة.
هذه اللحظات، رغم بساطتها، تخلق دفئًا ومودةً بين الأفراد، وتُعيد إحياء الروابط الإنسانية التي قد تضعف بسبب انشغالات الحياة.
المهمّ ليس طول الوقت الذي نقضيه معًا، بل جودته وصدق الحضور فيه.
ثالثًا: التسامح كركيزة أساسية
لا يمكن أن تزدهر أي علاقة إنسانية دون تسامح. فالتسامح ليس ضعفًا كما يظن البعض، بل هو قوة داخلية تُمكّننا من تجاوز الأخطاء والمواقف الصعبة.
كثير من العلاقات العائلية اليوم تتوتر بسبب الحساسية المفرطة وقلّة الصبر، إذ أصبح بعض الأفراد ينتظرون أخطاء الآخرين بدل أن يمنحوهم فرصة للتصحيح.
لذلك، فإنّ التسامح يفتح بابًا جديدًا للاستمرار، ويمنح القلوب راحةً وسلامًا، ويعيد المياه إلى مجاريها في كل مرة تهتز فيها العلاقة.
رابعًا: التعاطف والفهم المتبادل
ينطلق التعاطف من الرغبة الصادقة في رؤية الأمور من وجهة نظر الآخر. عندما نحاول أن نفهم دوافع الشخص الآخر، لا نحكم عليه، بل نتواصل معه بعمق وإنسانية.
فالتعاطف يُحوّل الخلاف إلى فرصة للنضج، والاختلاف إلى مساحة للحوار. ومن خلاله، تتعمّق الروابط الأسرية، لأن القلب الذي يفهم، لا يقسو.
خامسًا: الدعم العاطفي والنفسي
العائلة هي الحاضن الأول لكل فرد، وهي الملاذ الآمن في لحظات الضعف والانكسار.
لذلك، يجب أن يشعر كل فرد أنّه ليس وحده في أزماته. فالدعم لا يكون بالكلمات فقط، بل بالفعل والموقف:
- إذا مرض أحد أفراد العائلة، نقف إلى جانبه.
- إذا احتاج إلى مساعدة مادية، نمدّ له يد العون قدر استطاعتنا.
- إذا مرّ بمرحلة نفسية صعبة، نُصغي إليه ونمنحه مساحة آمنة للتعبير عن مشاعره.
- وإذا كان يسعى لتحقيق هدف أو مشروع، نقدّم له الدعم المعنوي والفكري والتشجيع المستمر.
إنّ هذا الدعم بمختلف أشكاله — العاطفي، النفسي، الاجتماعي، والاقتصادي — هو ما يمنح العائلة معناها الحقيقي، ويجعلها مصدر قوّة لا شكلًا اجتماعيًا فحسب.
سادسًا: العائلة أساس المجتمع
ختامًا، تبقى العائلة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع. فإذا كانت الأسرة متماسكة، كان المجتمع أكثر استقرارًا وأمانًا.
وفي زمن يتزايد فيه التفكك العاطفي والانشغال المفرط بالحياة المادية، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة إحياء القيم الأسرية الأصيلة القائمة على الوعي، والاحترام، والنية الصادقة في الحفاظ على روابط الدم والرحمة.
يمكنك الاطلاع أيضاً على تأثير العائلة على حياة الشباب وتوجهاتهم
إنّ العائلة السليمة لا تُبنى صدفة، بل بالحبّ، والجهد، والإصغاء، والتسامح، والتعاطف، والدعم المتبادل. فهي ليست فقط بيتًا نسكنه، بل قلبًا نحيا فيه.





