شادية.. اجتمع الناس على حبها. فهي معبودة الجماهير في الغناء والتمثيل، وصوتها كمطربة كان سيمفونية مفعمة بالبهجة والحب والسعادة الممزوجة بالشجن. وكممثلة، لم تعرف السينما نجمة متعددة المواهب مثلها. فمنذ شبابها، كانت حريصة على الاهتمام بعائلتها وأبناء إخوتها ومساعدتهم. كانت الأخت، والأم، والصديقة، والجدة.
في هذا اللقاء الخاص، تحدثنا الفنانة التشكيلية ناهد طاهر شاكر، ابنة شقيق الفنانة الراحلة شادية، عن ذكرياتها الخاصة مع عمتها الغالية.
رفض العائلة تجسيد سيرتها في عمل درامي
رغم مرور ثماني سنوات على رحيل شادية، لا تزال سيرتها تثير اهتمام صناع الدراما والجمهور، وتتكرر التساؤلات حول إمكانية تقديم مسلسل تلفزيوني يجسد حياتها ومسيرتها الفنية. إلا أن عائلتها كانت ولا تزال واضحة في موقفها.
توضح ناهد شاكر، ابنة شقيق شادية: "نحن نرفض تماماً تقديم أي عمل درامي عن السيرة الذاتية لعمتي، وهذا ليس قرارنا فحسب، بل قرارها هي أولاً وأخيراً. فقد كانت، طوال حياتها، ترفض كل المحاولات والمشروعات التي عُرضت عليها؛ لتجسيد حياتها في مسلسل. ونحن نتمسك برغبتها ونحترمها تماماً حتى بعد وفاتها."
ذلك الرفض ينبع من احترام إرادة فنانة لطالما قدّرت الخصوصية، وآثرت أن تبقى تفاصيل حياتها الشخصية بعيداً عن الأضواء، حتى وإن كانت شخصيتها وقصتها مصدر إلهام للكثيرين.
عن أصول عائلة شادية

ناهد شاكر: جدي محمد شاكر تزوج من لطيفة هانم، وأنجبا أحمد كمال الدين – وهو جدي – الذي كانت له أصول تركية؛ حيث كانت مصر وقتها تحتضن جنسيات متعددة، وكان الجميع يعيشون معاً: المصري واليوناني والتركي والسوري واللبناني وغيرهم.
تزوج جدي أحمد كمال الدين من جدتي خديجة، وكانت قد جاءت من تركيا إلى مصر مع ابنتيها من زواج سابق، وهما عفاف وسعاد. ثم تزوجت من جدي وأنجبت محمد – الذي توفي شاباً – ثم أنجبت شادية، واسمها الحقيقي فاطمة فتوش (بالتركية)، وأبي طاهر.
جدي كان صارماً للغاية، وكانت له محاذير عندما بدأت عمتي شادية مشوارها الفني. فقد اشترط عليها ألّا تظهر في مشاهد غير لائقة أو ترتدي ملابس لا تليق بعاداتنا وتقاليدنا. وأذكر أن عمتي حكت لي أنه في فيلم ليلة عيد كان هناك مشهد لقبلة في نهاية الفيلم، لم تكن قبلة حقيقية، لكن جدي غضب جداً بسبب ذلك.
عن الجدة خديجة وعلاقتها بشادية
جدتي خديجة كانت شخصية قوية وصارمة، وما تطلبه يُنفذ فوراً. لا صوت مرتفع في البيت، والكلام بحساب. وكانت تُعامل عمتي شادية بحزم أحياناً وبحنان أحياناً أخرى، وكانت شادية قريبة جداً منها. وفي أواخر حياة جدتي، تفرغت عمتي لرعايتها وبقيت معها في المستشفى لفترة طويلة تخدمها بمحبة وتضحية، حتى توفاها الله سنة 1993.
أما أول طفلة في العائلة فكانت ليلى، ابنة عمتي سعاد، وكانت شادية تحبها وتلعب معها كثيراً.
يمكنك التعرف إلى هند رستم صاحبة البصمة الفنية المميزة في السينما المصرية
والدي كان مدير أعمالها وتوأم روحها

ناهد شاكر: والدي طاهر شاكر كان مدير أعمال عمتي شادية، وكان توأم روحها. كانت تستشيره في النصوص التي تُعرض عليها. كنت أرى ذلك بعيني عندما كانا يجلسان في منزلها بالجيزة، يقرآن سيناريو ريا وسكينة.
وكان والدي يقيم معها إقامة كاملة في منزلها، وكذلك أنا ووالدتي كنا نقيم معها.
منزل شادية كان منزل العائلة
ناهد شاكر: نعم، هذا صحيح. كنا نقيم فيه أنا وأبناء عماتي وأعمامي. وكانت شادية تلعب معنا كثيراً، منها لعبة الاستغماية. في إحدى المرات، اشترت سيارات صغيرة ولعبت معنا سباق السيارات. كانت تحب أن نكون حولها في غرفتها، نلعب ونلهو، بينما كانت هي جالسة على سريرها تحل الكلمات المتقاطعة أو تقرأ الصحف والمجلات.
رحيل والدي أثَّر عليها كثيراً
ناهد شاكر: وفاة والدي أثرت عليها بشكل بالغ. كان ذلك في الفترة التي أجرت فيها عمتي عملية كبيرة لاستئصال صدرها، بعد أن أبلغ الأطباء والدي بأنها مصابة بالسرطان وأن أمامها ستة أشهر فقط للعيش. ولكن، بشكر الله، شُفيت عمتي ورحل والدي بدلاً منها.
دخلت بعدها في حالة اكتئاب شديد، وكانت وقتها تعرض مسرحية ريا وسكينة. لاحقاً، سافرت إلى أمريكا لزيارة أختها الكبرى عفاف، وأجرت فحوصات هناك؛ لتفاجأ بأن الأطباء أخبروها أنه كان يمكنها ألا تستأصل صدرها! حزنت جداً لذلك.
بعد عودتها، سافرنا إلى أسوان والإسكندرية لفترة. كنت وقتها في الثالثة عشرة من عمري. عمتي شادية كانت حنونة وصديقة حقيقية لي. كانت تصر على التعرف إلى أصدقائي، وتدعوهم لمنزلها، وتتحاور معهم وتعرف أهلهم. كانت تزورني في المدرسة لتتابع مستواي الدراسي، وتحضر لي مدرسين في البيت.
ماما شادية تكفلت بكل العائلة مادياً. دفعت مصاريف تعليمي في المدارس، ثم في الجامعة الأمريكية. كنت أتمنى دراسة الفنون الجميلة، لكن مجموعي لم يؤهلني، فاختارت لي ماما شادية الجامعة الأمريكية لأُقوّي لغتي.
إليك "سيدتي" في منزل عبد الحليم حافظ مع المخرج محمد كمال الشناوي
شادية وحرمانها من الأمومة
ناهد شاكر: عمتي كانت تفقد أي جنين في الشهر السادس، ولم يُكتب لها أن تكون أماً، لكنها كانت راضية بقضاء الله. نحن – أبناء إخوتها – عوضناها بأفضل إحساس بالأمومة.
أعتقد بأنه لو كان لها أبناء، لاعتزلت الفن مبكراً، لأنها كانت تحب حياة العائلة والاستقرار.
عن صداقاتها الفنية: فاتن حمامة، عبد الحليم، فريد الأطرش
ناهد شاكر: نعم، كانت تُحب فاتن حمامة كثيراً، وكانت على تواصل دائم بها. كانت تُعجب بدقتها، أناقتها، وأخلاقها، وتعتز بفيلم "موعد مع الحياة" الذي جمع بينهما.
أما عبد الحليم حافظ، فكانت تحزن على مرضه المستمر، وتعتز بثنائيتهما الفنية، خاصة في "معبودة الجماهير" و"دليلة". وقد أخبرتني أن تصوير "معبودة الجماهير" طال كثيراً بسبب مرض حليم.
وفريد الأطرش كان حباً كبيراً في حياتها بعد طلاقها من عماد حمدي. روت لي أنها كانت قد جهزت فستان الزفاف بانتظار عودته من السفر، لكن أحد الزملاء دسّ بينهما، وأخبر فريد كذباً أنها ارتبطت بغيره. فصُدمت عندما عاد فريد ولم يتصل بها، واحترمت كرامتها وأنهت العلاقة.
وقبل وفاته، شاهدت لقاءً له مع الصحفي فوميل لبيب، قال فيه إن شادية كانت المرأة الوحيدة التي فكر في الزواج منها، وأنها ستظل حب حياته.
هند رستم تقف إلى جانبها
ناهد شاكر: عمتي لم تنسَ أبداً موقف هند رستم معها أثناء تصوير فيلم نحن لا نزرع الشوك. في أحد المشاهد، احتاجت شادية إلى شعر أشقر ولم تجد باروكة مناسبة، فاتصلت بهند وطلبت منها استعارة باروكتها، فوافقت فوراً وقالت: "تؤمري يا شادية."
إليكِ ماذا قالت شادية عن تقديمها أغنية "يا حبيتي يا مصر" للمرة الأولى؟
منْ زوار منزل شادية؟
ناهد شاكر: كانت زيارات الفنانين لمنزل شادية محدودة. رأيت نجاة الصغيرة، وبليغ حمدي، ومريم فخر الدين – التي كانت صديقة مقربة جداً – وأسامة أنور عكاشة، الذي عرض عليها أحد الأدوار، لكنها كانت قد حسمت قرار الاعتزال.
عندما تقدم زوجي لخطبتي

ناهد شاكر: عندما تقدم زوجي لخطبتي، ذهب إلى منزل عمتي في الجيزة. جلست معه، وتحدثت إليه في مواضيع كثيرة، وسألت عن تفكيره وفهمه للحياة. أثنت عليه، وقالت لي: "هو مهندس محترم، أهم شيء تختاري على أساس الأخلاق والدين والشهادة."
كانت والدتي متزوجة حينها، لذلك شاركتني عمتي كل تفاصيل الزواج. اشترت لي شقة الزوجية، وفستان الزفاف، وجهزتني. فعلت ذلك مع كل أفراد العائلة. كانت تفرح بأولادي وتُحضر لهم الألعاب المناسبة لأعمارهم.
شادية وبكاؤها على صديقات عمرها
ناهد شاكر: حزنت كثيراً على رحيل سعاد حسني، واهتمت بأخبار وفاتها وملابساتها. كانت تحرص على متابعة برنامج سمير صبري عنها. وبكت كثيراً على فاتن حمامة، وهند رستم، ومريم فخر الدين.
ما رأيك التعرف إلى أشهر ثنائي سينمائي.. 6 أفلام جمعت صلاح ذو الفقار وشادية
هل تتذكرين لحظة اعتزال شادية وارتدائها الحجاب؟

بكل وضوح. بعد وفاة والدي، دخلت عمتي في حالة من القلق والاضطراب الشديدين. كانت تعيش صدمة فقد توأم روحها، وساءت حالتها النفسية بشكل ملحوظ. وبعد انتهاء عرض مسرحية "ريا وسكينة"، قررت أن نسافر معاً في رحلة استجمام طويلة، زُرنا خلالها الأقصر وأسوان والفيوم والإسكندرية. كانت رحلة تأمل لما يمكن أن تفعله لاحقاً.
في تلك المرحلة، كانت تعيش أيضاً حالة من الاكتئاب والتفكير العميق. فبعد إجرائها عملية استئصال الثدي، لم تحصل على أي تأهيل نفسي كما هو متّبع حالياً بعد هذا النوع من العمليات، لذلك لجأت إلى العزلة المؤقتة والتأمل.
بعد عودتنا من السفر، عرضت عليها الشاعرة علية الجعار أغنية "خد بإيدي"، وبدأت بالفعل في عمل بروفات لها، وغنّتها بروح مؤثرة.
ثم، وفي إحدى المرات، قالت لي بهدوء وحسم: "قررت أعتزل الفن.. قدمت كل اللي عندي". وبعد فترة قصيرة، قررت ارتداء الحجاب، وقالت لي: "شعري أصبح أبيض.. وأنا أشعر أنه من الأفضل أن أغطيه". وعندما ارتدته، شعرت براحة كبيرة.
من المهم أن أؤكد أن عمتي كانت تعتز بتاريخها الفني، وكانت ترى أن كل عمل فني قدمته يحمل رسالة بناءة للناس. لم تعتبر الفن يوماً حراماً، ولم تندم على أي عمل قدمته. كانت متدينة بطبعها، تصلي وتصوم وتقرأ القرآن، وكانت تتقرب إلى الله طوال حياتها. وبعد الاعتزال، زاد هذا القرب، لكنها لم تكن أبداً منعزلة كما يقال، بل كانت اجتماعية جداً، متفرغة لعائلتها، تحتفل بكل مناسبة عائلية، وتخصص لكل حفيد أسبوعاً للاحتفال به في بيتها بالجيزة.
الزيجات الأربع: منْ الأقرب إلى قلب شادية؟
تزوجت عمتي أربع مرات: من الفنان عماد حمدي، ثم من عزيز فتحي، ثم الكاتب الكبير مصطفى أمين، وأخيراً الفنان صلاح ذو الفقار.
كانت تحب وتحترم مصطفى أمين كثيراً، وتقول عنه دائماً: "كان الأقرب لقلبي". كانت تعتبره الزوج الذي احتواها بعمق. حياتهما كانت الأقرب إلى نفسها، حياة المثقفين، التي كانت تعشقها. كانت تحب صالوناته الثقافية، وتحرص على حضورها. كان هادئ الطباع، يحترم المرأة، ويقدر فكرها. لكن للأسف، كما قالت لي، "خطفوه مني وسجنوه"، وكان ذلك صدمة كبيرة بالنسبة لها.
الأيام الأخيرة: المرض.. ثم الوداع
بدأت حالتها الصحية في التدهور التدريجي بسبب أمراض الشيخوخة الطبيعية. وقبل وفاتها بعامين، أصيبت بالتهاب رئوي، وأقامت بالمستشفى نحو أسبوعين حتى منّ الله عليها بالشفاء. بعدها، أصبح من المستحيل أن تعيش بمفردها في المنزل.
كنا نتناوب خدمتها، أنا وأفراد العائلة، ونستعين ببعض الممرضات والجليسات لمساعدتنا. كنا نذهب إليها كل يوم جمعة، وكان الغداء دائماً كباب وكفتة ورنجة، كما كانت تحب.
في أيامها الأخيرة، دخلت المستشفى مجدداً بسبب فشل في الرئة والتهاب رئوي حاد. أذكر جيداً عندما زرتها أنا وابنة عمي، لم تكن تتكلم، ولكن بمجرد أن وقفنا بجانب سريرها، بدا وكأن روحها ردّت إليها، وفقاً لما قاله الأطباء. تحسنت حالتها فجأة عندما شاهدتنا. اقتربت منها، قبلتها، وقلت لها: "أنتِ أمي.. قدمتِ لنا كل شيء جميل في حياتنا.. أحبك كثيراً يا أمي". كانت دموعي لا تتوقف، وهي كذلك. شعرت وقتها أنها النهاية، وكان الوداع الأخير.
بعد رحيلها، شعرت أنني فقدت الحضن، فقدت السند، فقدت منْ يسمع مشاكلي دون أن أحكيها.. فقدت الأم الحقيقية.
لم تكن شادية مجرد فنانة عظيمة ملأت الشاشات والمسرح بالصوت والصورة، بل كانت قلباً نابضاً بالحب والعطاء لكل منْ حولها. كانت إنسانة قبل أن تكون نجمة، وعمة قبل أن تكون "دلوعة السينما". في عيون ناهد شاكر، لم تكن شادية فقط رمزاً فنياً، بل كانت الأم، والحضن، والرفيقة، والملاذ.
وربما ما يجعل ذكراها خالدة، ليس فقط ما قدمته من أعمال خالدة، بل الطريقة التي عاشت بها إنسانيتها حتى اللحظة الأخيرة، برقي، وبساطة، وإيمان.
رحلت شادية، لكن سيرتها ظلت تعلّمنا أن القوة لا تناقض الحنان، وأن الاعتزال لا يُنقص من العطاء، وأن النجومية الحقيقية تبدأ من الداخل.
يمكنك أيضاً الاطلاع على فاتن حمامة الممثلة الأكثر رومانسية في تاريخ السينما المصرية