تُوفي فجر اليوم الخميس الشاعر ناصر بن جريد بن عبدالعزيز الجريد، بعد رحلة طويلة مع المرض، تاركاً خلفه إرثاً خالداً في وجدان الأغنية السعودية، بعدما ساهم في تأسيس هويتها وبناء ملامحها الأولى. كان من القلائل الذين أدركوا أن الشعر الغنائي ليس صناعة إيقاع، بل صناعة روح ومعنى.
وتتوجه أسرة سيدتي بخالص العزاء والمواساة إلى ابنته الزميلة هلا الجريد، وإلى جميع أفراد أسرته ومحبيه، سائلين الله أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، ويجزيه عن عطائه وإبداعه خير الجزاء.
و سيصلى عليه - إن شاء الله - اليوم ( الخميس) بعد صلاة العصر في جامع الملك خالد بالرياض والعزاء للرجال والنساء في منزل الفقيد بحي الملك عبدالله.
ناصر بن جريد.. الشاعر والأديب

ناصر بن جريد، الذي شغل سابقاً منصب مدير إدارة المراسم والمناسبات بإمارة منطقة الرياض، اسم لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن تاريخ الأغنية السعودية.
فهو أحد أبرز صنّاع الكلمة الذين منحوا الأغنية المحلية عمقها وخصوصيتها، ورفعوا من شأنها لتصبح فناً يعكس الوجدان السعودي بكل صدقه وبساطته وثرائه الثقافي.
شاعر وكاتب فذ، جمع بين الموهبة الأدبية والرؤية الثقافية، واستطاع أن يصنع لنفسه مكانة خاصة بين عمالقة الفن السعودي والعربي.
لم يكن يكتب للغناء بقدر ما كان يكتب للحياة، للكلمة التي تؤسس إحساساً وتبني صورة وتترك أثراً لا يُمحى.
لذلك بقي صوته الشعري حاضراً في ذاكرة الإبداع، تتردد أصداؤه في أجيال من الفنانين الذين وجدوا في كلماته ملاذاً للصدق والتعبير.

من «سكة التايهين» إلى «الليل أبو الأسرار»
من بين أعماله التي خلّدها التاريخ، تبرز أغنية «سكة التايهين» التي لحنها الموسيقار طارق عبدالحكيم وغناها محمد عبده، لتصبح علامة فارقة في مسيرة الفن السعودي.
لم تكن الأغنية مجرد عمل فني، بل كانت نقطة تحول في الوعي الغنائي، إذ كتب فيها ناصر عن التيه لا بوصفه ضياعاً، بل بحثاً عن يقينٍ في الحب، وعن إنسانٍ يتأمل قلبه ليجد طريقه إليه.
كلماته كانت تشبهه؛ شفافة، رصينة، بلا صخب، لكنها تترك أثراً لا يُمحى.
«سكة التايهين» لم تكن مجرد عنوان لأغنية، بل ملامح شاعرٍ آمن أن العبور في الحياة لا يتم إلا عبر دهشة الكلمة وصدقها.
كما ترك بصمته في أغنية «الليل أبو الأسرار» التي غناها عبدالله رشاد، وأغنية «يا أبو البلد» التي تغنى بها الراحل طلال مداح، و«سور البلد عالي» التي قدمها محمد عبده.
أغانٍ جسدت وعيه العميق بدور الكلمة في تعزيز الهوية الوطنية، وتأكيد أن الأغنية يمكن أن تكون صوت الوطن بقدر ما هي صوت الإنسان.

صداقة الفن والمعنى
ارتبط ناصر بن جريد بعلاقات إنسانية وفنية وثيقة مع محمد عبده، تجاوزت حدود النص إلى عمق الفهم المشترك للفن والذائقة، كانا يتحاوران حول اللغة واللحن والموقف، فكلٌّ منهما كان يرى في الآخر صدىً لذائقته وإيمانه بالكلمة الصادقة، كان محمد عبده يقول عنه في مجالسه: «كلمة ناصر تُغني نفسها حتى قبل أن تُلحن».
كما جمعته صداقة روحية وفنية مع الراحلين طلال مداح والعميد طارق عبدالحكيم، ومع إبراهيم خفاجي، فكان واحداً من ذلك الجيل الذهبي الذي أسس ملامح الأغنية السعودية الحديثة.
تلك العلاقات لم تكن مهنية فقط، بل إنسانية في جوهرها، امتزج فيها الوفاء بالفن والاحترام المتبادل للكلمة واللحن والموقف.
شاعر وإعلامي ومثقف أصيل
إلى جانب موهبته الشعرية، كان ناصر بن جريد قلمًا صحفيًا مؤثرًا في المشهد الثقافي السعودي.
عمل في الصحافة وحرر صفحات ثقافية في مجلة اليمامة، وكرّس جهده للدفاع عن الشعر الشعبي، معتبرًا إياه مكوّناً ثقافياً لا يقل أصالة عن الفصحى.
ومن خلال تحريره صفحة «سفينة حنان» في المجلة، قدّم الشعر الشعبي بأسلوب راقٍ ومتميز، ورأى في اللغة المحلية نافذة على وجدان الإنسان السعودي وتاريخه.
نجح في أن يمزج بين التراث والحداثة، وأن يُعيد تقديم الشعر الشعبي بوصفه فناً أدبياً راقياً، لا مجرّد لهجة دارجة.
رؤية ثقافية تتجاوز الشعر
لم يكن ناصر بن جريد شاعرًا منعزلاً في محراب القصيدة، بل كان يرى في الثقافة والفن وسيلةً للارتقاء بالوعي الجمعي.
آمن بأن الثقافة الفنية جزء من الرقي الفكري للشباب، ولذلك شارك في العمل مع إدارة نادي الهلال منذ تأسيسه، مؤمناً بأن الثقافة والرياضة جناحان متكاملان لتطور المجتمع.
كان صاحب رؤية تنويرية تدعو إلى أن تكون الكلمة الجميلة والفن الهادف رافدين للتربية الذوقية والفكرية للأجيال الجديدة، فكان حضوره الثقافي متجاوزًا حدود الشعر إلى بناء الوعي الجمالي.
شاعر الوطن والوجدان
كتب ناصر بن جريد للوطن كما كتب للعاطفة، وأمسك بتوازنٍ نادر بين الحسّ الوطني والوجدان الإنساني.
في قصائده الوطنية لا تسمع ضجيج الحماسة، بل عمق الانتماء، وفي نصوصه العاطفية لا ترى اندفاع العاشق بقدر ما تلمس حكمة القلب حين يتكلم.
كان يؤمن أن الكلمة إن لم تكن مخلصة، فلن تُخلّد مهما لحنها الكبار.
ولهذا ظلت قصيدته تعيش طويلاً في ذاكرة الناس، لأنها وُلدت من صدق التجربة لا من زخرف القول.

سيرة لا تُنسى وإرث خالد
من مكة المكرمة حيث نشأ، إلى الطائف موطن العميد طارق عبدالحكيم، امتدت علاقات ناصر بن جريد الفنية والإنسانية لتبني جسوراً من الإبداع استمرت لعقود.
كان شاهداً على تحولات كبرى في تاريخ الأغنية السعودية، وساهم في صياغة تلك التحولات من خلال أعماله التي حملت عبق التاريخ وعمق التجربة.
لم يكن كثير الظهور ولا سريع النشر، لكنه كان حاضراً في ذاكرة الفن والأدب بصدق تجربته ونقاء لغته.
جمع بين الشعر والفكر، بين النغمة والمعنى، فغدت قصيدته شاهداً على زمنٍ أنيقٍ في ذائقته، عميقٍ في إحساسه.

وداع شاعر من جيل الرواد
رحم الله ناصر بن جريد، شاعر «سكة التايهين» وصوت الكلمة النقية التي ظلت تغني للأرض والإنسان حتى آخر نبضة.
إنا لله وإنا إليه راجعون.





