إذا سبق لك أن شاهدت طفلاً يكرّر اللعبة نفسها أو يُعيد تمثيل القصة نفسها مراراً وتكراراً، فقد تتساءلين عن سبب ذلك. قد يبدو الأمر رتيباً من وجهة نظر الكبار، لكن بالنسبة للأطفال، فإن هذا النوع من اللعب يُعد طبيعياً تماماً. ويساعد التكرار الأطفال على اكتساب مهارات جديدة، وفهم مشاعرهم، واستيعاب العالم من حولهم. وعلى عكس ما قد نظن، فإن العودة المستمرة إلى الألعاب نفسها والأنشطة ليست مملة، بل تُعد ركيزة أساسية في مسيرة نمو الطفل واستكشافه وبناء ثقته بنفسه. ومن خلال فهم سبب انجذاب الأطفال للّعب المألوف، يمكننا أن نُقدّر بشكل أعمق عملية التعلّم الهادئة التي تجري في الخلفية، الدكتورة سنيها جون، أخصائية نفسية في مركز ميدكير كمالي كلينك في جميرا، تفسر لماذا يُكرر الأطفال اللعبة نفسها لسنوات؟

أهمية التكرار في مرحلة الطفولة

يكمُن أحد أسباب أهمية التكرار في الطريقة التي يتطوّر بها دماغ الطفل. ففي كل مرة يُعيد فيها الطفل لعبة أو قصة أو نشاطاً معيناً، يقوي في الواقع المسارات العصبية في الدماغ -وهي الوصلات بين خلايا الدماغ التي تُمكّن المعلومات من الانتقال بسرعة وكفاءة. تتابع د.سنيها: "يساعد هذا التكرار المستمر على تحسين الذاكرة، وزيادة التركيز، وتعزيز مهارات حل المشكلات، وتطوير المهارات الحركية واللغوية، مع بناء الثقة بالنفس والكفاءة. ورغم أن اللعبة قد تبدو مكررة أو متشابهة بالنسبة للبالغين، إلا أن دماغ الطفل يعمل في كل مرة على صقل تلك المهارات الحيوية وتقوية الروابط العصبية الدقيقة التي تدعم نموه الشامل".
كيف يتعلم الدماغ من خلال التكرار؟
يتطوّر دماغ الطفل بسرعة خلال سنواته الأولى، ويُسهم اللعب المتكرّر في تقوية المسارات العصبية التي تتكوّن في هذه المرحلة الحيوية. ففي كل مرة يعود فيها الطفل إلى لعبة مألوفة، يكون دماغه في حالة تدريب على مهارات معرفية مثل التخطيط، والترتيب المنطقي، والذاكرة، والتركيز، إلى جانب تنمية التنسيق الحركي، بما في ذلك التوازن، والقوة الجسدية، والتناسق بين اليد والعين.
كما يتم تعزيز المهارات اللغوية من خلال استخدام الكلمات والعبارات المألوفة، فيما تتطوّر قدرات حل المشكلات عند الأطفال مع كل تجربة جديدة واستراتيجية مختلفة حتى يجد الطفل الحل المناسب. ورغم أن اللعبة قد تبدو متطابقة من الخارج، فإن الطفل في كل مرة يُعيد فيها اللعب، يكون في الواقع يُنقّح التفاصيل الدقيقة، ويُصبح أسرع، وأكثر ثقة، وتمكّناً.
هل يمنح الروتين والتكرار الأطفال الأمان العاطفي؟

يعيش الأطفال الصغار في بيئة مليئة بالتغيّرات المستمرة — من روتين جديد، إلى أماكن غير مألوفة، وتوقعات متغيّرة من المحيطين بهم. وهنا يأتي دور اللعب المتكرّر الذي يمنحهم شعوراً بالاستقرار عند الطفل وسط هذه التحوّلات. فاللعب المألوف يوفّر للأطفال الراحة، والقدرة على التوقّع، والإحساس بالسيطرة، ومتنفساً عاطفياً آمناً. ولهذا السبب، غالباً ما يعود الأطفال إلى أنماط اللعب المتكرّر في فترات التوتر أو الحماس أو التغيير — مثل بدء الدراسة أو قدوم شقيق جديد إلى العائلة. ويساعدهم هذا الإيقاع المألوف على تنظيم مشاعرهم والشعور بالاتزان النفسي. تستدرك د.سنيها: "يستخدم الأطفال اللعب بشكل طبيعي للتعبير عن عالمهم الداخلي. وعندما يُكرر الطفل نمطاً معيناً من اللعب — مثل أدوار الإنقاذ، أو البناء، أو تقمّص أدوار أفراد الأسرة — فإن ذلك غالباً ما يكون انعكاساً لعملية معالجة عاطفية. ويساعد اللعب المتكرر الطفل على فهم مواقف قد تبدو له مُربكة، واستكشاف مشاعر مثل القلق أو الحماس أو الإحباط، وتجريب سيناريوهات مختلفة، وبناء شعور بالتحكّم في تجارب قد تبدو له طاغية أو معقدة. فاللعب هو لغة الطفل، والتكرار هو طريقته في التعبير بشكل أوضح وأعمق".
افهمي شخصية طفلك حسب الألعاب التي يختارها
كيف يتيح التكرار فرص التعلم؟
بينما يسعى البالغون غالباً إلى التجارب الجديدة، يبحث الأطفال عن الإتقان. فالتكرار يتيح لهم فرصة التدرّب المستمر حتى يصبح الشيء مألوفاً ومريحاً بالنسبة لهم. ومن خلال هذه العملية، يقوي الطفل ثقته بنفسه، واستقلاليته، وكفاءته. وما إن يشعر الطفل بالأمان في أداء مهارة معيّنة أو استيعاب قصة ما، ينتقل تلقائياً إلى تجربة جديدة. هذا التحوّل يحدث بصورة طبيعية، دون أي ضغط، عندما يكون الطفل مستعداً من داخله للمضي قدماً. تستطرد د.سنيها: "رغم أن اللعب قد يبدو متكرّراً من الخارج، فإن خيال الأطفال في تطوّر مستمر. فاللعبة الواحدة أو المشهد نفسه يمكن أن يتحوّل مع الوقت إلى قصص متعدّدة ومختلفة. يوفّر اللعب المألوف بنية آمنة للابتكار، ومساحة تسمح بالنمو التدريجي للخيال، كما يُشكّل لوحة مفتوحة يُمكن للطفل أن يُضيف إليها تفاصيل جديدة في كل مرة. وما يبدو تكراراً سطحياً، غالباً ما يكون زاخراً بالاستكشاف العقلي والإبداع الداخلي، حيث تمنح الألعاب المتكررة مع الأشقّاء أو الأصدقاء الأطفال فرصاً مستمرة لتطوير مهاراتهم الاجتماعية والعاطفية. فمن خلال اللعب الجماعي، يتعلّم الأطفال كيفية تبادل الأدوار، والمشاركة، والتفاوض على القواعد، وفهم مشاعر الآخرين، والتعامل مع الإحباط أو خيبة الأمل. وفي كل مرة تُعاد فيها اللعبة، يختبر الطفل تجربة اجتماعية جديدة قليلاً، مما يُساعده على تنمية المرونة النفسية وتعزيز التعاطف مع من حوله".
كيف يمكن للوالدين دعم اللعب المتكرّر؟

في معظم الحالات، يُعدّ اللعب المتكرّر سلوكاً صحياً تماماً. ومع ذلك، قد يكون من المفيد إلقاء نظرة أقرب إذا لاحظنا أن الطفل يشعر بالضيق عند تغيير مجريات اللعبة، أو إذا كان نمط اللعب صارماً دون أي مرونة، أو أن التكرار يهيمن على كامل اليوم، أو في حال كان الطفل يجد صعوبة في التفاعل الاجتماعي رغم التشجيع. قد تشير هذه الأنماط إلى حاجة الطفل لدعم إضافي في جوانب مثل المرونة السلوكية أو تنظيم المشاعر عند الأطفال، ومن المفيد في مثل هذه الحالات استشارة طبيب أطفال أو أخصائي نفسي للأطفال للحصول على التوجيه المناسب. تتابع د.سنيها: "لا حاجة لأن يوقف الوالدان اللعب المتكرّر، بل يمكنهم دعمه وتعزيزه بطرق بسيطة وفعالة. يمكنهم المشاركة في اللعب وتقديم تغييرات طفيفة أو مواد جديدة، وطرح أسئلة خفيفة حول ما قد يحدث لاحقاً، وتخصيص وقت للعب غير المنقطع، والاحتفاء بإصرار الطفل وإبداعه في تكرار التجربة. بهذه الطريقة، يصبح التكرار مساحة للنمو، يعكس تطوّر الطفل الداخلي وفضوله المستمر.
كثيراً ما يسأل الأطفال "لماذا؟"، وهذا يُتيح فرصاً رائعة لطرح مفاهيم جديدة أو حتى إيجاد إجابات معاً. القراءة والتحدث مع طفلك واستكشاف أفكار جديدة أمرٌ رائع للحفاظ على نشاط عقول الصغار. حاولي إدخال التعلم في روتينك اليومي.
- إدخال الحساب في الطبخ.
- سرد القصص وقراءة الكتب لتعلم القراءة والكتابة.
- خصصي وقتاً للاستكشاف الإبداعي من خلال الفن.
- شجعي طفلك على استخدام كلمات جديدة والمشاركة في المحادثة.
- توفير روتين داعم ومنتظم لطفلك ليشعر بالأمان.
- بدء الأنشطة البدنية.
- كرري الدروس والأنشطة حتى يستمر طفلك في استخدام هذه الروابط.
نظرة جديدة إلى "اللعب المكرّر"
لا يُعيد الأطفال الألعاب نفسها لأنهم يفتقرون إلى الخيال، بل لأنهم يعملون على إتقان مهارات أساسية ومهمة. فالتكرار يُساعدهم على بناء هويتهم، وفهم مشاعرهم، وتقوية أدمغتهم. إنه من أكثر أشكال التعلّم فطرية وفعالية. وعندما ينظر الوالدان إلى اللعب المتكرّر كعملية نمو ذات معنى، سيقدّرون السحر الهادئ الذي يحدث في الخلفية؛ ذلك النمو البطيء والثابت لطفل واثق، فضولي، ومتمكّن من قدراته.
30 دقيقة من اللعب الحر تسعد طفلك وتنمي شخصيته وتقوي مناعته! ما رأيك؟
طرق بسيطة لتعليم الأنماط لمرحلة ما قبل المدرسة عن طريق التكرار

والآن نلقي نظرة على بعض الأفكار لإنشاء بيئة تشجع على التكرار، وما يمكنك القيام به لضمان حصول الأطفال على أقصى استفادة من هذه الأنشطة المتكررة.
1. قومي بتكرار الأنشطة
من السهل جداً تحديث الأنشطة وتغييرها باستمرار، خاصةً عند إجراء تحليل المجموعة ومحاولة تعزيز جوانب معينة.
إذا كان الطفل منشغلاً حقاً بشيء ما، فلا تجعلوه نشاطاً لمرة واحدة فقط. ابحثوا عن طريقة لإدراجه في جدول روتين الطفل لفترة أطول حتى يظل الأطفال منشغلين ويكتسبون منه خبرات تعليمية جديدة في كل مرة.
2. لا تغيري البيئة كثيراً
إن تغيير بيئتك لمعالجة جوانب معينة وتحسين الجوانب المهملة أمرٌ بالغ الأهمية لضمان استمرارية الرعاية الناجحة للأطفال. تذكري أن التغيير لمجرد التغيير لا يفيد أحداً. وتذكري أيضاً أنه حتى لو كنتِ -كشخص بالغ- تشعرين بالملل ومستعدة للتغيير، فهذا لا يعني أن الطفل يشعر به أيضاً.
فالراحة جزء أساسي مما يجعل التكرار مهماً جداً للأطفال، والبيئة المتغيرة باستمرار يمكن أن تجعل من الصعب جداً العثور على هذه الراحة، خاصة بالنسبة للأطفال الذين يحضرون بشكل أقل انتظاماً.
3. قومي بتحسين مهارات القراءة لديك
من الأمور التي يمكنك القيام بها لتحسين تجربة التعلم عند قراءة كتاب للمرة المليون وتجربة أصوات مختلفة. فهذا يُساعد الأطفال على التفاعل وتقليد الأفكار نفسها، ويزيد من قدرتهم على التعاطف مع شخصيات القصة، ويفهمون أنفسهم بشكل أفضل. وهذا مفيد لنموهم العاطفي.
فكرة رائعة أخرى هي الحديث مع الأطفال حول ما يحدث، وسؤالهم عما إذا كانت القصص تتعلق بأي شيء في حياتهم الحقيقية وإشراكهم بشكل عام في سياق القصة قدر الإمكان.
4. رددي أناشيد الأطفال
هناك سبب وجيه لبقاء أناشيد الأطفال ركيزةً أساسيةً في تعليم الأطفال في السنوات الأولى لسنواتٍ طويلة. فهي تُتيح فرصاً تعليميةً رائعةً وممتدةً، مع مرور الأطفال بالمراحل.
بدايةً، إنها ممتعة. ثم، يمكن للطفل أن يرتاح في المشاركة في نشاط ما والغناء مع مجموعة. الإتقان الذي يأتي من الانتقال من الاستماع إلى المشاركة، ثم حتى توقع التغيير؟ إنها لحظة رائعة حقاً للطفل في أي مرحلة من مراحل نموه.
5. دعي الأطفال يتبعون اهتماماتهم
التكرار القسري لن يكون الحل الأمثل. لذا، فإن السماح للأطفال بممارسة هواياتهم أمرٌ بالغ الأهمية لإنجاح هذا النهج. يمكن تحسين هذا الأمر باتباع جدول زمني أقل صرامة، حيث لا يُجبر الأطفال على حزم أغراضهم أو التوقف عما يفعلونه عندما يكونون في أوج نشاطهم. لا ينبغي إعطاء الأولوية للأنشطة المخطط لها مسبقاً على المواقف التي يتابع فيها الأطفال اهتماماتهم بسعادة وحرص.
6. امنحي أطفالك الأمان
بمجرد أن يصبح لديك أطفال يتابعون اهتماماتهم باستمرار، فإن الخطوة التالية هي توسيع نطاق هذا الاهتمام. ابحثي عن طرق لاستخدام اهتمامات الأطفال في المجالات التي قد لا يشعرون فيها بالأمان الكافي، لتخفيف شعور الطفل بالخجل وعدم القدرة على التنبؤ.
7. افهمي مراحل نمو طفلك
يعتمد الدعم على تقديم المساعدة المناسبة، في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة. وهذا مهمٌّ بشكل خاص مع التكرار في السنوات الأولى؛ إذ يحتاج الأطفال أحياناً إلى أن يُتركوا بمفردهم للاستكشاف، بينما يكون التدخل ضرورياً أحياناً لدفعهم نحو اتجاهات معينة.
8. استخدمي الأسئلة المفتوحة
بمجرد أن يعتاد الأطفال على شيء ما، تُعدّ الأسئلة المفتوحة رائعة لمساعدتهم على استكشاف النشاط بشكل أعمق، وتمهيد مسارات أقوى، وتوسيع نطاق تعلمهم. جرّبي أموراً مثل:
ماذا تعتقد أنه سيحدث إذا...؟
ماذا يحدث في القصة هنا؟
ماذا سيحدث بعد ذلك إذا...؟
لماذا تعتقد أنهم يفعلون ذلك؟
سيتمكن الأطفال من الإجابة عن أسئلة مختلفة باختلاف مراحل نموهم. الأسئلة الواقعية التي تبدأ بـ"ماذا" و"من" عادةً ما تكون أسهل، بينما قد تُؤجل أسئلة "كيف" و"لماذا" إلى مرحلة لاحقة من نموهم.
خذي أيضاً في الاعتبار الأسئلة الحسية للتأكد من أن الأطفال يستكشفون التجربة متعددة الحواس بأكملها، واسأليهم عن رائحتها، وكيف تبدو، وما إلى ذلك، للتأكد من حصولهم على التجربة الكاملة.
*ملاحظة من «سيدتي»: قبل تطبيق هذه الوصفة أو هذا العلاج، عليك استشارة طبيب متخصص






