في ضيافة بلقيس ـ 1 ـ

 

حلق الطائر بي واستدار مثل غيمة، تمنيت لو أقفز إلى حضنها لأراني طفلة محاطة بالدببة الطيبين، أبطال إحدى سلسلات الكرتون التي بثت مراراً وتكراراً على امتداد سنوات تربط بيني وبين أطفالي.

 آه ما أجمل الطيران والرحيل بعيداً عن أي شعور يتقمص الإنسان، يلبسه مثل جلده، ويرافقه حتى وهو يحاول النسيان أو التناسي، كيف أنسى قرطاج الجميلة، بجدائلها الملونة وشمسها المشرقة على خدود الحسان في الأماسي الرائقة على الشاطئ وفي المسارح المهيأة للفرح. كيف أنسى أمي تخيط لي أثواب الأعياد، وترتق ما تمزق منها بأناة وصبر وحب، كيف أصبر على دفء كفيها المورقين حناناً وأحلاماً.

انتفض الطائر واهتز في الهواء بعد أن أعلنت المضيفة عن الوصول إلى عيني بلقيس، التي سحرت وضاح، وألجمت ألسنة والعفاريت. بعد قليل تنطلق رحلتي أنا وسط مكان مذهل، حين لمست قدماي بساطه الأبيض. وكأن الزمن يتراجع إلى الوراء، وكأني أمام شاشة التلفاز أشاهد فيلم هجرة الرسول إلى يثرب. ها أنا أرى عنترة العبسي يتمنطق بحزام فضي ويضع خنجراً في وسطه. إن الرجال في صنعاء يرتدون ما نسميه نحن في تونس بـ «الفوطة» يلفونها حول أحزمتهم فتصبح وكأنها تنورة قصيرة، تشبه قليلاً الزي الاسكتلندي، ويزين الأحزمة التي تشد تلك الفوط، نوع من الخناجر الفضية المرصعة بالعقيق. اتسعت حدقتاي وفغرت مخيلتي على متاهات بعيدة. كان دخولي إلى صنعاء صعباً، هذه المرة انعكست الصورة حيث تمكن مرافقي من العبور بسهولة للمرة الأولى منذ خروجنا من تونس، والسبب يعود إلى جواز سفره اليمني.

أصر الجمركي على رأيه كوني أجنبية، ولا يمكنني العبور دون تأشيرة. قلت له بصوت يفضح استيائي «أنا تونسية، عربية، وتونس بلد عربي ينتمي إلى الجامعة العربية، ألم تسمع عنه قبل الآن؟». واصل الجمركي إصراره على أنني أجنبية، مضيفاً إلى ما قاله، ولم أفهمه جيداً، لاختلاف لكنته الجديدة على أذني، التي لم تعتد على غير اللهجة المصرية المألوفة لدينا، من خلال اقتحام السينما الفرعونية لبيوتنا «أنت أوروبية، تونس بلد أوروبي..». لم أضف كلمة ربما هو على حق، فأنا ملامحي تميل إلى الأوروبيين، وليست لتونس سفارة حينها في اليمن.

قال مرافقي: يبدو أن التفاهم معهم صعب، انتظري هنا سأدبر الأمر. وغادر المطار تاركاً الصمت والحدقات يلتهمون ما تبقى من جلدي، كدت أسقط أرضاً وأنا أرى العيون تطبق على جسمي المرتجف مثل سنبلة غادرت حقلها لتضيع في التيار وحيدة.

غاب مرافقي طويلاً، وكنت في انتظار عودته أسلي نفسي بالتفرج على من حولي من رجال ونساء، يختلفون عن كل الذين رأيتهم من قبل. والجوع بدأ يقرص معدتي، ويضغط على مصاريني، فتمتزج قرقرة البطن بكز الأسنان، بضجيج المكان. خلتني شجرة تطير بها العاصفة، زائرة من كوكب غريب، أقحوانة برية تنزرع وسط زوبعة. الخوف يزداد والوقت يتراجع إلى الخلف لاوياً عنق صبري، «أين أنت يا أمي، تعالي وانظري ما حل بابنتك..» وبكيت، في تلك اللحظة امتدت يد ومسحت قطرات كادت تسقط على أرضية المطار. قال مرافقي «الحمد الله» حلّت، هيا ادخلي صنعاء بسلام».