في رحلة الحياة، يمر الإنسان بمراحل متعاقبة من النمو والتطور، تبدأ من الاعتماد الكامل على الآخرين في الطفولة، ثم تنتقل تدريجياً نحو الاستقلال والنضج. ومن أهم معالم هذا التحول هو تحمل المسؤولية عن الحياة الشخصية، وهو مفهوم يتجاوز مجرد القيام بالواجبات اليومية؛ ليصل إلى أعمق مستويات الوعي بالذات والقدرة على اتخاذ القرارات وتحمل نتائجها.
لكن السؤال الجوهري الذي يطرحه كثيرون: "متى يبدأ الإنسان فعلياً بتحمل المسؤولية عن حياته الشخصية؟" هل يبدأ ذلك عند بلوغ سن الرشد القانونية؟ أم عندما يخرج من بيت والديه؟ أم حين يمر بتجربة تغير مجرى حياته، مثل أول وظيفة أو زواج أو حتى أزمة شخصية؟.
إن بداية تحمل المسؤولية هي لحظة وعي، قد تكون مفاجئة أو تدريجية، لكنها حتماً تمثل نقطة تحول في حياة الإنسان. إنها اللحظة التي يدرك فيها أنه ليس ضحية للظروف، بل صانع لمصيره.
اختصاصية الصحة النفسية الدكتورة فرح الحر تشرح لـ"سيدتي" معنى اتخاذ القرارات. والعوامل التي تسهم في نمو هذا الشعور بالمسؤولية، والمعوقات التي قد تؤخره، وكيف يمكن للأفراد – خصوصاً في المجتمعات الحديثة – أن يتعلموا المهارات والأدوات التي تساعدهم.
تحمل المسؤولية الشخصية بشكل واعٍ وبنّاء

نحن اليوم نجد أنفسنا نسير في طرق لم نخترها بالكامل، ونتخذ قرارات مدفوعة بالضغط، وبالرغبة في إرضاء الآخرين، أو بالخوف. يتساءل الشخص: لماذا لا أشعر بالرضا؟ ولماذا تتكرر نفس الأخطاء؟
طبعاً، السبب هو غياب تحمّل المسؤولية عن حياتنا وقراراتنا الشخصية. فتحمّل المسؤولية لا يعني أبداً جلد الذات، بل يعني الاعتراف بأننا أصحاب القرار، وأن كل قرار نتخذه في حياتنا له أثر، وله ثمن.
ما رأيك متابعة أهمية دعم الأهل في قرارات الشباب المستقبلية
عندما نبدأ بتحمّل مسؤولية قراراتنا، ننتقل من دور الضحية إلى دور القائد في حياتنا. ومن أن نعيش بردود الأفعال، إلى أن نعيش بوعي واختيار.
فيما يخص أهمية اتخاذ القرارات، فإنّ القرارات التي نتخذها، أو نتردد في اتخاذها، هي التي تشكل مسار حياتنا خطوةً بخطوة. فكل قرار، مهما بدا بسيطاً، يساهم في تشكيل هويتنا، يحدد وجهتنا، ويؤثر على نوعية حياتنا، علاقاتنا، ومستقبلنا.
اتخاذ القرار هو تعبير عن حريتنا الشخصية، وهو الأداة التي ننتقل بها من حالة التلقي إلى حالة التأثير. فعندما نتوقف عن اتخاذ القرارات، فإننا نسمح للآخرين أو للظروف أن يختاروا عنا، فنعيش حياة لا تشبهنا، حياة يسيطر عليها التردد والندم.
أما عندما نكون نحن منْ يتخذ الخيارات، حتى في ظل الشك والخوف، فنحن نغذي بداخلنا الشعور بالمسؤولية والثقة، ونخلق انسجاماً داخلياً مع ذواتنا.
أهمية اتخاذ القرارات

اتخاذ القرار لا يعني بالضرورة أن يكون كل اختيار مثالياً، لكنه يعني أننا نختار بوعي، وأننا قادرون على التعلم والنمو حتى من الأخطاء. فالحياة لا تكافئ منْ يسعى للكمال فقط، بل تكافئ منْ يجرؤ على الفعل والمبادرة.
القرارات تبدأ عادةً من أواخر مرحلة المراهقة، أي تقريباً عند سن الثامنة عشرة؛ حيث تبدأ البذور الأولى لتحمّل المسؤولية الشخصية بالظهور. يبدأ الإنسان باتخاذ قراراته، يختبرها ويتحمّل نتائجها. في هذه المرحلة، نلاحظ كيف يبدأ المراهق باتخاذ قرار مبدئي حول التخصص الجامعي، وهو أولى خطوات الاستقلالية.
وفي أوائل العشرينيات، يُفترض أن ينتقل الإنسان من مرحلة التأثّر الكامل بالبيئة المحيطة إلى مرحلة الاختيار الواعي؛ حيث يُدرك أن له الحق والواجب في أن يختار منْ يكون، ومنْ يريد أن يُحيط نفسه به من أصدقاء، ومنْ يريد أن يبتعد عنه. يبدأ كذلك بتحديد القيم التي يريد أن يسير بها في حياته، وما الذي يرضيه وما لا يرضيه. وعندما يقول "لا"، يكون قادراً على وضع حدود واضحة.
لكن هناك منْ يتأخّر في تحمّل مسؤولية قراراته الاجتماعية، وذلك لأسباب عدّة، منها: الخوف من الرفض أو الوحدة، وجود شخصية اعتمادية مفرطة تعتمد على الآخرين - كالأهل أو المجتمع أو الأصدقاء أو الشريك - في اتخاذ القرار، بالإضافة إلى البرمجة المسبقة على إرضاء الآخرين، وكذلك الشعور بالذنب عند قول "لا"، ونقص تقدير الذات واحترامها.
الخطوات الأساسية لبدء تحمّل المسؤولية
من أبرز العلامات والمؤشرات التي تدل على أن الإنسان بدأ يتحمّل مسؤولية حياته الاجتماعية وقراراته، أن يصبح قادراً على قول "لا" عندما لا يناسبه أمر ما، من دون أن يشعر بالذنب. كما يتمكن من وضع حدود صحية، ويُحسن اختيار منْ يسمح لهم بالدخول إلى حياته، ومنْ يُخرجهم منها. يتحمّل نتائج قراراته، ويتعامل مع الآخرين بوعي، ويقوم بمراجعة علاقاته وتنقيحها بشكل دوري، دون أن يعتمد على رضا الآخرين ليُقيّم ذاته أو يشعر بقيمته الشخصية.
أما الخطوات الأساسية لبدء تحمّل المسؤولية، فهي:
- تقييم العلاقات: أن يسأل الإنسان نفسه منْ هم الأشخاص الذين يشعر معهم بالراحة والدعم؟ ومنْ هم الذين يؤذونه أو يُثقلون عليه؟ يجب أن يُميّز منْ يُضيف له ومنْ يسحب طاقته.
- قول "لا" بوضوح: أن يتعلم قول "لا" بأسلوب واضح ومحترم، دون شعور بالذنب، وأن يُدرك احتياجاته النفسية، ولا يتركها تحت رحمة أو تحكّم الآخرين.
يمكنك الاطلاع أيضاً على استراتيجيات لاتخاذ قرارات جماعية بشكل أفضل!
- اتخاذ قرارات يومية بسيطة: أن يبدأ بقرارات صغيرة يتحمّل نتائجها، مما يعزز ثقته بنفسه ويُنمّي إحساسه بالمسؤولية.
- الوقت للتأمل الذاتي: أن يخصص وقتاً يومياً للتأمل والكتابة؛ ليستمع لصوته الداخلي، ويُدرك ما يريد حقاً، ويُراجع مسار حياته بوعي.