للأدب الساخر مسارحه ومؤسساته الإبداعية اليوم، لكن جذوره موغلةٌ في عمق تاريخ الإنسان حتى إن بعض النقوش على جدران الكهوف تشير إلى أن الإنسان القديم عَرف السخرية وسيلة للضحك ولو بطريقته البدائية.
وقد تطور الأدب الساخر حتى غدا فنًا قائمًا بحد ذاته، فمن الكتابة نثرًا وشعرًا، إلى المسرح والسينما والكاريكاتير والموروث الشعبي.
الأدب الساخر أحد أهم كنوز الإبداع في العالم، الذي يعتمد بالدرجة الرئيسية على المفارقات والتوريات واللُّمح والتعريض؛ لإظهار الجوهر الكامن وراء هذه الأساليب، التي تُتخذ للكشف عن هذه السلبيات والمظاهر الجائرة في المجتمعات، وخاصة في مراحل التحولات الكبرى.
غير أن البواعث للجوء إلى هذا الأسلوب تختلف من عصر لآخر، حيث كانت غاية السخرية في عصرٍ فردية وفي عصر آخر جماعية، ومن الممكن أن يكون هدف الكاتب من هذه النصوص إما سياسية أو اجتماعية أو له أسباب أخرى، فلهذا نقول إن السخرية لون من الهجاء، أو المجون أو التهكم أو الفكاهة أو النكتة أو الظرف أو الهزل، جميعها تندرج تحت الأدب الساخر ولكن بفوراق.
فمن الشعراء الذين اعتنقوا أسلوب السخرية في أشعارهم بذلك الوقت، الشاعر المخضرم «الحطيئة» الذي أدرك الجاهلية وأسلم في زمن أبي بكر فقال يهجو «الزبرقان بن بدر التميمي» سيد قومه وكان يجمع زكاة قومه ويؤديها لهم في زمن عمر بن الخطاب.
دع المكارم لاترحل لبغتيها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقد اشتكى لعمر لما هجاه الحطيئة. فقال له عمر: وما قال لك؟ فألقى عليه البيت، فقال عمر: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة. فقال الزبرقان: أو لا تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس؟ والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيت قط أشد عليَّ منه. فدعا عمر حسان بن ثابت وسأله: أتراه هجاه؟ قال حسان: نعم وسلح عليه! فحبس عمر الحطيئة.
ويقال إن عمر اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، وأخذ عليه عهدًا ألا يهجو أحدًا ولكن يقال إنه رجع للهجاء بعد استشهاد عمر بن الخطاب.
فالشعر الساخر يبدو جليًا في شعر الهجاء الذي يعتمد على الطابع الكاريكاتيري والمفارقات في معظم الأحيان لذم المهجو، وأشهر شاعرين عربيين تبادلا الهجاء في العصر الأموي واستخدما السخرية هما جرير والفرزدق، فقال جرير واصفًا عقول قوم خصمه الفرزدق.
وَلَو وُزِنَت حُلومُ بَني نُمَيرٍ عَلى الميزانِ ما وَزَنَت ذُبابا.
والسخرية تبدو جلية في شعر جرير للفرزدق، في التحدي والكيدية التي كان يناطحه بها فيقول:
زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أنْ سيَقتُلُ مَرْبَعًا أبْشِرْ بطُولِ سَلامَة ٍ يا مَرْبَعُ.
وقال الفرزدق متفاخرًا بنفسه وقومه وهاجيًا لجرير وقومه:
إن الذى سمك السماء بنى لنا بيتًا دعائمه أعز وأطول
إنا لنضرب رأس كل قبيلة وأبوك خلف أتانه يتقمل
فإذا بدأنا البحث في تاريخ كلمة سخرية أو مرادفاتها وجدنا أن النصوص الجاهلية التي ذكرت فيها قليلة جدًا، وأقدم ما يعتمد عليه في ذلك الوقت هو القرآن الكريم: إذ ذكر جميع المترادفات تقريبًا التي تعنينا في هذا الموضوع: سخِر، هزِئ، ضحِك. ولم يكن نصيب هذه الكلمات من كثرة الاستعمال في الأدب الأموي بأحسن منها في الأدب الجاهلى، لذلك نجد أن أسلوب السخرية في ذلك الزمن لم يكن فنًا قائمًا بحد ذاته، بل كان بداية لرحلة طويلة وصل فيها الأدب الساخر إلى ذروته في العصر العباسي، فكما نرى كان الشعر الساخر في ذلك الوقت معتمدًا على الهجاء، وكما يقول الشاعر المخضرم جرير «إذا هجوت فأضحك».
إذا هجوت فأضحك... الأدب الساخر
- ثقافة وفنون
- سيدتي - رباز حجير
- 03 أبريل 2017