«اليزابيث هولمز» Elizabeth Holmes شابّة أمريكيّة ذكيّة وطموحة، تسلّقت بسرعة سلّم الشّهرة والثّراء، وتربّعت وهي في الثانيّة والثلاثين من العمر على عرش «أصغر مليارديرة في العالم».ثم أفلست وتبخّرت أحلامها وتدحرجت من أغنى امرأة إلى امرأة مفلسة ومهدّدة بالسّجن.
«سيّدتي» تروي في هذا التّحقيق القصّة العجيبة لصعود هذه المرأة إلى القمّة ثم سقوطها إلى الهاويّة!
يمكن لأي شخص عادي من النّاس في الولايات المتّحدة الأميركيّة أن يكوّن بفضل ذكائه الوقّاد وعمله الدؤوب وحظّه السّعيد ثروة طائلة وأن يصبح مليارديراً.
وتاريخ الولايات المتحدة الأميركيّة زاخر بقصص رائعة وسير مدهشة لأشخاص انطلقوا من الصفر ليصبحوا من أغنى الأغنياء، فأميركا تغذّي الحلم لكلّ مواطنيها وحتّى للمهاجرين إليها.
ولكن وفي المقابل من الممكن لأي ثري ملياردير أن يفلس لسبب أو لآخر، وهناك قصص كثيرة دراميّة لمن أفلسوا وعادوا إلى الصفر بعد أن صعدوا إلى قمّة الثروة والثراء.
وقصة «إليزابيث هولمز» هي إحداها.
اختراع ثوري
دخلت «إليزابيث هولمز» جامعة «ستانفورد» ذائعة الصّيت بكاليفورنيا لدراسة الكيمياء، وغادرتها وهي في التاسعة عشرة من العمر بعد عامي دراسة فقط، ولم تكمل تعليمها الجامعي. انقطعت بإرادتها عن إتمام دراستها الجامعيّة، وأسّست وهي في تلك السن المبكّرة شركة طبية عملت بواسطتها على تعميم أسلوب جديد مبتكر في تحليل الدم، قالت إنّه أسرع وأقل تكلفة وأكثر جدوى من الأسلوب المتعارف عليه، فإن فحص الدم وتحليله لم يشهد تطوّراً يذكر منذ أكثر من نصف قرن وجاءت «إليزابيث هولمز» بفكرة جديدة من اختراعها، خلاصتها أنه بوخزة صغيرة واحدة في الإصبع وبقطرة دم واحدة يمكن إجراء 70 فحصاً مخبريّاً في ظرف زمني وجيز لا يتجاوز ربع ساعة وبكلفة زهيدة، ووفق ابتكارها لم تعد هناك حاجة لسحب كمية من الدم لكل تحليل، فقطرة واحدة تفي بالغرض لمئات التحاليل.
جاءت بفكرة ثوريّة في المجال الطبي وهي التي لم تدرس يوماً الطب أو علوم الصيدلة، وإنما كان الطموح الجارف يدفعها نحو طريق غير مسبوق يقود إلى الشهرة والنجاح والثروة.
رسالة الطفلة التي أصبحت مليارديرة
كانت الفتاة التي تكاد لم تتجاوز سن المراهقة تتّقد حماسة، وهي تذكر بأن 70 في المائة من العلاج الذي يباشره الطبيب يعتمد على نتائج التحاليل للدم، وبالتالي فإن فكرتها ـ إن تمّ تطبيقها كما تصوّرتها ـ تربح المال والوقت للمريض وتساعد أيضاً الطبيب، فالتقنيّة التي تقترحها ذات جدوى عاليّة وقليلة الكلفة.
وبفضل ما تتمتع به من شخصيّة قويّة و«كاريزما» ومن حضور طاغٍ في القنوات التلفزيونيّة، وبفضل مشاركاتها المكثفة في الندوات والمحاضرات، فإنها نجحت في الدعاية لمشروعها وتقديم ابتكار للمستثمرين الذّين سال لعابهم لمشروع مربح ربحاً كبيراً، ففي أميركا وحدها تجرى 7 مليارات اختبار للدم كل عام وهو قطاع يدرّ67 مليار دولار من الأرباح.
كثر الحديث عن اختراع «إليزابيث هولمز» وتم وصفه بـ«الثوري» وحصل إجماع على أنّها امرأة موهوبة وطموحة، وتولّت بنجاح التسويق لفكرتها، وقيل إنّها كتبت وهي في التاسعة من العمر رسالة إلى والدها جاء فيها قولها: «ما أريده في الحياة هو أن اكتشف شيئاً جديداً لم تكن الإنسانية تعتقد أنه ممكن تحقيقه!».
وهكذا بنت هذه الشابّة «أسطورة» حول فكرتها المبهرة على الورق أوّلاً، ثمّ جسّدتها في مؤسّسة كبيرة وشركة ضخمة، لها مخابر ورأس مالها 10 مليارات دولار ويشتغل بها 520 موظفاً وعاملاً، ونجحت في جلب مستثمرين كبار من المشاهير، وضمّ مجلس إدارة شركتها شخصيات هامّة، كلهم رجال وأعمارهم تفوق السبعين عاماً وتصل إلى 98 عاماً، وكلهم من علية القوم ومن بينهم روبرت مردوخ، ووزراء سابقون من المشاهير مثل جورج شولتز وهنري كيسنجر (95 عاماً) السياسي الأميركي المعروف ووزير الخارجية في عهد الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون وهو من المساهمين في شركة إليزابيث هولمز التي قال عنها: «إن سر نجاحها هو تفوقها الفكري».
امرأة سابقة لعصرها
«إليزابيث هولمز»، وهي اليوم في الخامسة والثلاثين من العمر سبق أن صنّفتها مجلة «فوربس» الشهيرة كأشهر مليارديرة أميركية في العالم، فرأس مال شركتها بلغ 9 مليارات دولار عام 2015 وثروتها الشخصيّة وصلت إلى خمسة مليارات دولار.
وما يميز المرأة أنها لم تكوّن ثروة من ميراث عائلي، بل هي من كوّنت ثروتها الخيالية بنفسها، وأصبح الكلّ يلهج باسمها كامرأة سابقة لعصرها، وأنّ لها رؤية مستقبليّة بفضل «ابتكار طبي ثوري»، وهي التي لم تدرس الطب يوماً، واحتلّت صورها غلاف أكثر المجلّات انتشاراً، وأحاطت بها هالة إعلامية ودعاية كبيرة، فهي أصغر مليارديرة في العالم وثروتها ثروة خياليّة وقد اختارتها مجلة «تايم ماغازين» من بين الـ100 امرأة الأكثر تأثيراً في العالم، كما نشرت شبكة «السي أن أن » قائمة أغنى 10 شبان في العالم تحت سنّ الأربعين، وكانت إليزابيث المرأة الوحيدة ضمن هذه القائمة، وأصبحت تلتقي كبار رجال السياسة والاقتصاد وتفتح أمامها كلّ الأبواب.
وعلى غرار «بيل غيتس» الذّي سعى بأن يكون جهاز كومبيوتر فوق كلّ مكتب، فإن «إليزابيث هولمز» أقنعت الجميع بأنّ لها فكرة غير مسبوقة مفادها السّعي بأن تكون اختبارات الدم التشخيصيّة لاكتشاف أي مرض قبل ظهوره، وهي ما فتئت تؤكد بأنّها عملية يسيرة في متناول الجميع، وتم فعلا الترخيص لها بالعمل وتعاقدت مع سلسلة من الصيدليات وبدأت العجلة تدور.
المليارديرة التي كرست حياتها للعمل
تنتمي إليزابيث هولمز إلى عائلة عريقة، فجدّها كانت له نجاحات في مجال الطب، وأمّها كانت عضوة بالكونغرس الأميركي وظهرت عند تأسيسها لشركتها في مظهر من تعيش حياة لا بذخ فيها، وحسب شهادة الصحافية «كان أوتيلا» الإعلامية بـ«نيويركر» التي زارتها في شقتها وأجرت معها حديثاً صحافياً، فقد لاحظت أن لا وقت لها إطلاقاً لمشاهدة التلفزيون، ولم تكن تستمتع بأي إجازة منذ عديد السنوات، ووجدت الصحافية ثلاجة «إليزابيث هولمز» فارغة في بيتها؛ لأنها تأكل في المكتب لا مواعيد غرام لها وهي تعمل ليل نهار.
تربعت إليزابيث هولمز طيلة أعوام على عرش الشهرة والمال، ولكن مشروعها بقي غامضاً فهي تعتمد السرية التامة، وبقيت تكرر أن مشروعها نجح، ولكن ظهرت كتابات هنا وهناك تقول مثلاً أن سحب نقطة دم من الإصبع أقل جودة عند التحليل من سحبه من الوريد، ثم هناك صحافي مختص تساءل: كيف أن امرأة لا علاقة لها بالطب تؤسس شركة تحت غطاء مؤسسة علمية طبية، وتقول إنها اخترعت منظومة طبية جديدة في تحليل الدم؟
تحقيقات استقصائية
وفجأة هبّت عليها عاصفة هوجاء بدأت بتحقيقات استقصائية معمقة أجرتها عن شركتها الجريدة الشهيرة «وول ستريت جورنال» كشفت فيها أن ادعاء إليزابيث هولمز بأنها أحدثت «ثورة» في مجال تحليل الدم هي أكذوبة صدقها الكثيرون، وأن الحقيقة هي أنها باعت الوهم للناس وللمستثمرين الذين أسهموا في شركتها بمبالغ ضخمة.
وبيّن الصحافي المختص «جون كاريور» في الجريدة المذكورة ثم في كتاب عنوانه «دم فاسد» سيتحول قريباً إلى فيلم، أن الشركة التي أسستها إليزابيث هولمز لم تنجح في تحويل النظرية والفكرة التي روجت لها المخترعة إلى واقع ملموس فالآلة التي تم تسويقها والترويج لها على أنها ذات جودة عالية وقدرة فائقة إنما هي كذبة.
لقد حاولت منع الصحافي من مواصلة نشر مقالاته، ومارست عبر أقوى المحامين عليه شتى أنواع الضغوطات، ولكنه لم يرضخ وكشف في تحقيقات استقصائية أن شركة «إليزابيث هولمز» قامت فقط باستغلال آلات من شركات طبية مماثلة في الاختصاص، وقام بعض المهندسين العاملين معها بإدخال تحويرات عليها، ولكنها كانت تطارد السراب، فقد أكدت التحقيقات الاستقصائية للصحافي المذكور أن الآلة التي اخترعتها وصنعتها، لم تأت وفق التصورات النظرية الأولى، ولم تكن قادرة على تحليل سوى 4 أنواع فقط من التحاليل، وليس مئات كما بشرت هي بذلك.
قد تكون إليزابيث هولمز صادقة في مسعاها في البداية مدفوعة بطموحها الجارف، ولكن الواقع خذلها، ففكرتها كانت فعلاً ثورية على الورق، ولكن ورغم انتدابها لمئات الموظفين والمهندسين للعمل على إنجاز الفكرة وتصنيعها، إلا أنها تعثرت ثم فشلت.
**خدعت المجتمع العلمي الأميركي مدة 12عاماً!
ولكن الخطير أنها استمرت في الكذب والتحايل سنوات طويلة على الشركاء معها، والمستثمرين في شركتها، إلى أن افتضح أمرها وشاع بين الناس ممارستها للغش، وتبخّرت ثروتها وانتشر خبر إفلاسها، وأصبح حديث الجميع في الولايات المتّحدة الأميركيّة وعواصم بلدان كثيرة، بعد أن أعلنت مجلة «فوربس» أنّ إليزابيث هولمز أفلست وأن ثروتها اليوم صفر دولار.
تدخل القضاء لإجراء تحقيقات حول مغالطتها للمستثمرين الذّين مولوا شركتها، بعد أن ثبت لديهم أنها كسّرت معهم قواعد الشفافية المالية وغالطتهم، زد على ذلك شكاوى المرضى الذين قالوا إنه وقعت مغالطتهم بتشخيص خاطئ.
وتبيّن أن الأسلوب الذّي بشّرت به «إليزابيث هولمز» في تحليل الدم يمثّل خطراً على صحة المرضى، وبعضهم رفع قضايا وشكاوى، وطالبوا بتعويضات عما يكون لحقهم من ضرر، وقبلت اليزابيث أن تدفع غرامات مالية كبيرة لهم؛ درئاً للفضيحة وخوفاً من سحب المستثمرين أموالهم من شركتها.
وواصلت المراوغة والتمويه إلى حين تمت دعوتها إلى مكتب التحقيق الفيدرالي لاستجوابها، وستتواصل محاكمتها خلال عام 2020 بعد أن تم توجيه جملة من التهم الخطيرة لها، من بينها التزوير والغش والتحايل، وبقرار من المحكمة صدر قرار بإغلاق كل مخابرها وإغلاق الشركة برمّتها.
وفي انتظار محاكمتها فقد جنّدت أشهر المحامين وأمهرهم للدفاع عنها، ثم سارعت بالزواج في الخفاء من رجل غني رغم اعتراض عائلته على هذه الزيجة، وهي اليوم تعيش في شقة فاخرة في «سان فرانسيسكو» ويقال إنها تخطّط لكي تكون حاملاً يوم وقوفها أمام القاضي؛ علّه يكون رحيماً بها؛ لأن التهم التي وجهها لها القضاء عقابها 20 عاماً سجناً.