mena-gmtdmp

في حب "مساري"

سهى الوعل
سهى الوعل
سهى الوعل

نجومٌ كُثُرٌ، حاورتهم على مدارِ السنواتِ، ونادراً ما يترك أحدهم أثراً طويلاً. مساري، فعلَ ذلك، لذا أكتبُ عنه، ربما لأنها المرَّةُ الأولى التي أحاورُ فيها فنَّاناً «يشعرُ بالراحة»!

قبل فترةٍ، التقيتُ الفنَّانَ اللبناني العالمي مساري، وقبل أن أبدأ الحوارَ معه، كنتُ أحملُ فكرةً شائعةً عنه، وهو أنه ابتعدَ عن الساحةِ، وأصبح مُقلّاً فنياً، لكنْ مع أوَّلِ عشرِ دقائقَ من الحديثِ، أدركتُ أن الصورةَ، كانت بعيدةً جداً عن الحقيقة. وللعلمِ، القصورُ، ليس مني، لأن ما اكتشفته لاحقاً، كانت أموراً، فعلياً ليست مكتوبةً، أو معروفةً عن مساري، لأنه ببساطةٍ لم ينشغل يوماً بكشفِ تفاصيلها للجمهور! خلال النقاشِ، تحدَّثَ عن الأعمالِ التي كان يقفُ خلفها في السنواتِ الماضيةِ بعيداً عن الغناء، وإنما بوصفه منتجاً، وكاتبَ أغنياتٍ، وأحياناً مشرفاً كاملاً على موهبةٍ ما ومسارها الفنِّي. المفاجأةُ كانت أن عديداً من هذه الأعمالِ حقَّقت نجاحاتٍ كاسحةً، وكانت ضمن الأكثرِ استماعاً عربياً وعالمياً، ومع ذلك، لم يرتبط اسمه بها عند الجمهور! من بين هذه الأعمالِ أغنيةُ «صحصح» الشهيرةُ التي جمعت نانسي عجرم ومارشميلو، وكانت واحدةً من أكثر المشروعاتِ التي أثارت ضجةً على مستوى العالمِ العربي، إضافةً إلى أغنياتِ بطولةِ كأسِ العالم ِالتي نُظِّمت قبل ثلاثِ سنواتٍ في قطر، وألبومِ «جنّني» لإليانا التي تعاون معها وتبنَّاها فنياً! كل هذا قادني لسؤالٍ مهمٍّ: «لماذا تبتعدُ عن الأضواءِ في مثل هذه النجاحاتِ؟ كان من الطبيعي كما اعتدنا عليه من أي فنَّانٍ آخرَ في مكانك أن تتصدَّرَ صورتُك العناوين، وأن تأخذَ حصَّتك الجماهيريَّةَ من هذا الزخم، لا سيما أنك صاحبُ خبرةٍ وحضورٍ عالمي!»، لكنْ ردةُ فعله، لم تكن كما توقَّعتُ، بل كانت مُبهجةٍ، ولم أسمعهاً فعلياً في حياتي خلال أي حوارٍ فنِّي. سألني بالمقابل: «ولماذا أفعلُ ذلك؟»، ثم تابع: «هذا عملٌ فنِّي، أقفُ خلفه، وليس من الضروري أن أقفَ أمامَه. أحياناً يكون النجاحُ في أن تمنحَ غيرك الفرصةَ ليكون في الواجهةِ. كثيرٌ من هذه المشروعاتِ كانت لنجومٍ جددٍ أقلّ خبرةً وجماهيريَّةً مني، لكنَّهم اليوم أكثر انتشاراً، وهذا طبيعي. أنا لي مكانتي، وهم لهم فرصتهم، ولن يأخذ أحدنا ما هو من نصيبِ الآخر». كلماته لم تكن مجرَّد إجابةٍ، بل عكست فهماً فنياً مختلفاً، لا أستشعره كثيراً عندما أحاور الفنَّانين، وهنا تعزَّزت نظريَّةٌ: الفنَّانُ الذي لا تشغله الأضواءُ والمهاتراتُ فنَّانٌ «مرتاحٌ»، لا يخافُ المقارنات، ولا يشعرُ بأن نجاحَ الآخرين تهديدٌ له، ولا يستهلك طاقتَه في الصراعاتِ غير الضروريَّة، بل يعيشُ في مساحةٍ خاصَّةٍ به، هي مساحةٌ هادئةٌ، وممتلئةٌ بالنجاحاتِ، لكنَّه لا يحتاجُ إلى رفعِ صوته ليُخبِرَ العالمَ عنها. بعدها بقليلٍ، كنت أحاورُ الفنَّانةَ جنَّات التي أدَّت بشكلٍ أسطوري على المسرحِ، وأثارت إعجابنا جميعاً. فجأةً، عادَ مساري مرَّةً أخرى، لكنْ هذه المرَّة بوصفه معجباً. أقبلَ على جنَّات بكلِّ عفويَّةٍ وحُبٍّ، وسلَّمَ عليها، وعبَّر لها عن انبهاره بها وبما قدَّمته. هي نفسها لم تعرف كيف تردُّ. كانت مندهشةً من تلقائيَّةِ اللحظةِ مثلنا جميعاً، ثم غادرَ مساري، فقالت لي: «الفنَّانُ الواثقُ من نفسه، يرى الآخرين بوصفهم زملاءَ لا منافسين، ويُظهِرُ ذلك بصدقٍ». جنَّات نفسها، ليست معتادةً على ذلك، لذا أبهرَها ما فعله مساري.

أكتبُ اليوم عن مساري بوصفه حالةً فنيَّةً، ولا أعرفُ إن كان ما رأيته «نُضجاً»، أم أنها ثقافةٌ، ليست موجودةً في الوسطِ الفنِّي، ولا أعلمُ أين تعلَّمها. شخصٌ، يملك سجلاً فنياً مزدحماً، لكنَّه يعيشُ بلا توتُّرٍ. ليس قلقاً من أن «يسرق» أحدهم الضوءَ منه. هذا الفارقُ بين فنَّانٍ، يتآكلُ داخلياً لأنه يقيسُ نفسه باستمرارٍ بالآخرين، وفنَّانٍ يزدادُ قوَّةً لأنه يقيس نفسه على نفسه فقط.

كفنَّانٍ، حين تحبُّ ما تفعل، وتنشغلُ به، تصبحُ المقارناتُ ترفاً لا حاجةَ لك به، وعندما تصلُ إلى هذه المرحلةِ، أنتَ لا تفقدُ الأضواء.. بل تختارُ متى وأين تريدُ أن تقفَ تحتها.