واجه الكثير من الشباب والفتيات في مجتمعاتنا وربما في كل المجتمعات سؤالاً محيّراً يتكرر في كل مرحلة من مراحل الحياة: لماذا نعود إلى نفس الأخطاء رغم أننا نعرف تماماً أنها ستؤذينا؟ يدخل البعض في العلاقات نفسها التي سببت لهم الألم، ويختار آخرون نفس المسار الدراسي أو المهني الذي فشل معهم سابقاً، بينما يستمر آخرون في التعامل مع الأشخاص والطريقة نفسها مهما أثبتت التجربة أنها غير صحية. هذا التكرار لا يعني بالضرورة نقص خبرة أو ضعف شخصية كما يُشاع، بل يكشف عن جانب نفسي عميق في الإنسان يحتاج إلى فهم أعمق وتأمل واعٍ.
فالإنسان ليس آلة تتعلم خطأً فتصححه فوراً، بل كائن معقّد تحكمه الذاكرة العاطفية، والأنماط المكتسبة، والجروح القديمة، والضغوط الاجتماعية التي تُشكّل قراراته دون وعي. أحياناً نكرر الخطأ لأننا اعتدنا عليه، وأحياناً لأننا نبحث من خلاله عن شعور افتقدناه، وأحياناً لأننا لا نعي أصلاً أن ما نفعله هو تكرار لما سبق.
في مرحلة الشباب بشكل خاص، يكون العقل في طور النمو، والهوية في حالة تشكّل، والعاطفة في أعلى مستوياتها، بينما الخبرة الحياتية لا تزال في بداياتها. ولهذا يصبح الشخص أكثر عرضة لتكرار السلوكيات ذاتها، حتى لو أدرك مسبقاً أنها ليست الخيار الأفضل. كما تلعب البيئة الاجتماعية والثقافية دوراً كبيراً؛ فالتوقعات المفروضة من الأسرة والمجتمع، والرغبة في الانتماء، والخوف من الحكم أو الرفض، كلها تجعل التغيير أكثر صعوبة.
لماذا نكرّر الأخطاء من وجهة نظر مختصة؟

اختصاصية الصحة النفسية الدكتورة فرح الحر، تعرض لـ"سيدتي" فهم الدوافع النفسية وراء إعادة نفس الأنماط رغم الوعي بعواقبها في مجتمعاتنا، خصوصاً في العالم العربي، يتكرر السؤال: لماذا يعيد الشباب نفس الأخطاء رغم معرفته المسبقة بنتائجها؟ سواء في العلاقات، أو الدراسة، أو العمل. والحقيقة أن الأمر ليس ضعف شخصية، بل نتيجة تفاعل معقّد بين عوامل نفسية واجتماعية عميقة.
- الذاكرة العاطفية: حين تنتصر المشاعر على العقل، الإنسان لا يتخذ قراراته بالعقل فقط، بل وفق الارتباطات العاطفية المرتبطة بالتجارب السابقة حتى لو كانت مؤذية.
المشاعر المرتبطة بالأمان أو الانجذاب تجعل التجربة المؤلمة تبدو مألوفة، فيعود الشخص إليها دون وعي.
- الارتباط بالمألوف (Comfort Zone): يميل الدماغ إلى ما يعرفه حتى لو كان مؤذياً، لأن المألوف يمنح شعوراً زائفاً بالسيطرة.
لذلك يعود البعض للعلاقات السامة أو الخيارات الفاشلة بدلاً من مواجهة المجهول.
قد يهمك الاطلاع على التحديات التي يواجهها الشباب في بناء هويتهم
- نقص الوعي الفردي ووجود "المناطق العمياء": الإنسان قد يعيش نمطاً متكرراً دون أن يراه.
يرى أخطاء الآخرين بوضوح لكنه يغفل عن أخطائه هو. وهنا يأتي دور الشخص الحكيم أو المختص النفسي في كشف هذه الأنماط.
- أنماط التعلق العاطفي وتأثير طفولة الشخص على اختياراته بحسب نظرية التعلق، يعيد الشخص في علاقاته ما عاشه في طفولته:
- تعلق قَلِق: ينجذب لشركاء متجاهلين أو باردين.
- تعلق تجنّبي: يهرب من الالتزام دائماً.
- تعلق مشوّش: يعيش علاقات غير مستقرة تشبه بيئة الطفولة.
هنا لا يبحث الفرد عن الحب، بل عن إعادة تمثيل الجرح الأول.
- الضغط الاجتماعي و"الخوف من كلام الناس" في مجتمعاتنا، كثير من القرارات تُتخذ لإرضاء المجتمع لا الذات: السعي للمثالية مقارنة النفس بالآخرين إرضاء العائلة التزام صورة اجتماعية غير واقعية هذا يخلق دائرة تكرار يصعب الخروج منها دون وعي وشجاعة.
- نقص المهارات الحياتية إعادة الأخطاء قد يكون ببساطة بسبب نقص الأدوات: عدم معرفة كيفية اختيار الصحيح ضعف القدرة على قول "لا" عدم وضع حدود الخوف من المواجهة حتى النوايا الجيدة تفسد حين تغيب المهارات.
- طغيان العاطفة على النضج العقلي: قد يتعلم الشخص درساً عقلياً، لكنه يكرر الخطأ لأن نضجه العاطفي لم يلحق بنضجه الفكري، وهذه فجوة شائعة جداً.
- الجروح النفسية غير المعالَجة: صدمات الطفولة أو التجارب المؤلمة قد تدفع الشخص إلى تكرار نفس السيناريوهات: من عاش الإهمال يبحث عن الاهتمام بأي ثمن من تعرض لخيانة يندفع لعلاقة جديدة سريعاً، من افتقد الحنان يتعلق بأي شخص يبدو لطيفاً لكن تكرار الجرح لا يُشفيه، بل يعمّقه.
- انخفاض تقدير الذات والشعور بعدم الاستحقاق عندما يشعر الشخص بأنه لا يستحق الأفضل، سيقبل بالأقل دائماً. وهذا ما يسمى الاستحقاق المنخفض: "هذا هو الحد الذي أستحقه من الحب والنجاح." وكسر هذا النمط يبدأ من الداخل.
كيف يتوقف الشباب والفتيات عن تكرار الأخطاء؟

- الاعتراف بالنمط أول خطوة للتغيير هي رؤية الدائرة بوضوح.
- فهم الجذور السؤال الأهم: لماذا أكرر هذا؟ وليس فقط: ماذا أكرر؟
- تعويض الاحتياجات العاطفية بطرق صحية علاقات داعمة، نشاطات تعزّز الهوية، دعم نفسي عند الحاجة.
- اكتساب مهارات حياتية جديدة حدود، ثقة بالنفس، قول "لا"، اتخاذ قرارات واعية.
- لتركيز على الذات لا على تغيير الآخرين التغيير يبدأ من الداخل، لا من الخارج.
- طلب المساعدة المتخصصة عند الحاجة خصوصاً في حال وجود صدمات أو علاقات مؤذية متكررة.
ما رأيك متابعة البنات والشباب في 2025.. هل تغيّرت طريقة التفكير فعلاً؟
الخلاصة: تكرار الأخطاء ليس ضعفاً ولا جهلاً، بل هو نمط يمكن كسره بالوعي، وبفهم الجذور النفسية، وبامتلاك الأدوات الصحيحة. عندما يدرك الإنسان قيمته ويواجه جروحه ويتحرر من المألوف المؤذي، يبدأ أول خطوة نحو حياة قائمة على الاختيار والوعي، لا على التكرار والوجع.





