رحلة الوعي بالذات في عالم متغيّر في زمنٍ تتسارع فيه الإيقاعات وتتعدد فيه المؤثرات الاجتماعية والثقافية، أصبح الحفاظ على الهوية الشخصية تحدّياً حقيقياً يواجه الكثيرين، خاصة مع ضغوط التوقعات المجتمعية، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وتداخل الأدوار الحياتية. فالإنسان اليوم لا يعيش بمعزل عن محيطه، بل يتأثر به ويتفاعل معه باستمرار، ما قد يجعله أحياناً يفقد بوصلته الداخلية أو يبتعد عن ذاته الحقيقية دون أن يشعر.
الهوية الشخصية ليست مفهوماً ثابتاً أو جامداً، بل هي بناء نفسي واجتماعي يتكوّن عبر التجارب، والقيم، والمعتقدات، والاختيارات اليومية. وهي تمثّل الإجابة العميقة عن سؤال: مَن أنا؟ وحين يفتقد الإنسان هذا الوضوح، يصبح أكثر عرضة للتشتت، والقلق، ومحاولة إرضاء الآخرين على حساب ذاته.
في هذا الموضوع، نسلّط الضوء على أهم السبل التي تساعد الفرد في الحفاظ على هويته الشخصية، من خلال الوعي الذاتي والاستقلالية وفهم تعددية الأدوار، مع إضاءة علمية من خلال مقابلة خاصة مع إيمانويل عوض، أستاذة جامعية وخبيرة في علم النفس، التي تقدّم رؤية نفسية معمّقة حول هذا الموضوع.
الوعي الذاتي: الخطوة الأولى لحماية الهوية

أولاً، من أجل أن نحافظ على هويتنا، يجب أن نفهم تماماً مَن نحن. فـالوعي الذاتي هو الأساس الذي تُبنى عليه الهوية السليمة. ويشمل ذلك معرفة ما نحب وما لا نحب، إدراك نقاط القوة لدينا، والاعتراف بالجوانب التي تحتاج إلى تطوير دون قسوة أو إنكار.
هذا الفهم العميق للذات يمنحنا صورة واضحة عن أنفسنا، ويجعل قراراتنا أكثر انسجاماً مع قيمنا الحقيقية، لا مع ما يفرضه الآخرون علينا. فحين نعرف أنفسنا جيداً، نصبح أقل عرضة للتأثر السلبي بالنقد أو المقارنات، وأكثر قدرة على البقاء صادقين مع ذواتنا.
قد يعجبك كيف تعكس اهتمامات الشباب شخصياتهم؟
الاستقلالية: أن تكون نفسك من دون ذوبان في الآخر
النقطة الثانية في الحفاظ على الهوية هي الرغبة الحقيقية في ذلك. فالهويّة لا تُحمى بالصدفة، بل بوعي وإرادة. نرغب في أن نكون مستقلين عن الآخرين، لا بمعنى الانعزال، بل بمعنى امتلاك القدرة على التفكير واتخاذ القرار من دون ذوبان في آراء الغير.
الاستقلالية تمنح الإنسان مساحة داخلية آمنة، يكون فيها قادراً على التميّز والتعبير عن ذاته بحرية، مع الحفاظ على علاقات صحية ومتوازنة. فالشخص المستقل نفسياً يعرف مَن هو، ويستطيع أن يقول "نعم" و"لا" في الوقت المناسب، دون شعور بالذنب أو الخوف من الرفض.
تعددية الأدوار: هوية واحدة بوجوه متعددة
نحن نعلم أننا نلعب أدواراً مختلفة في حياتنا، وهنا تتكوّن هويتنا من أجزاء متعددة. فقد يكون الإنسان صديقاً، أو محاضِراً، أو طبيباً، أو ابناً، أو شريك حياة. هذه الأدوار لا تتناقض بالضرورة، بل يمكن أن تتكامل وتثري شخصية الفرد.
المهم هو الوعي بهذه الأدوار، وفهم حدود كل منها، حتى لا يطغى دور على آخر بشكل يُفقد الإنسان توازنه أو شعوره بذاته. فالهويّة الصحية هي تلك التي تستوعب التعدد، دون أن تفقد جوهرها.
تعريف الهوية الشخصية من منظور علم النفس

تعرّف عوض الهوية الشخصية بأنها " الإحساس المستمر بالذات، أي أن يشعر الإنسان بأنه هو نفسه عبر الزمن رغم التغيرات". مشيرة إلى انها "تتكوّن من القيم، والمعتقدات، والخبرات، والعلاقات، والأدوار الاجتماعية. وكلما كان هذا الإحساس واضحاً ومستقراً، زاد الشعور بالأمان النفسي."
لماذا يعاني بعض الأشخاص من فقدان أو تشوش في هويتهم؟
غالباً ما يحدث ذلك بسبب الضغوط الخارجية، مثل التوقعات الأسرية أو المجتمعية، أو بسبب تجارب صادمة، أو غياب الوعي الذاتي. كما أن المقارنة المستمرة بالآخرين، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تلعب دوراً كبيراً في إضعاف الإحساس بالذات.
ما دور الوعي الذاتي في الحفاظ على الهوية؟
الوعي الذاتي هو حجر الأساس. عندما يعرف الإنسان نفسه بصدق، يصبح أقل عرضة للتأثر السلبي، وأكثر قدرة على اتخاذ قرارات تتماشى مع قيمه. الوعي لا يعني الكمال، بل القبول والسعي للتطور.
كيف يمكن التوفيق بين تعدد الأدوار والحفاظ على هوية متماسكة؟
من المهم إدراك أن تعدد الأدوار أمر طبيعي وصحي. المشكلة تبدأ عندما يعرّف الإنسان نفسه من خلال دور واحد فقط. التوازن والمرونة هما المفتاح، مع تخصيص وقت للتواصل مع الذات بعيداً عن الأدوار المفروضة.
الحفاظ على الهوية الشخصية ليس مهمة مؤقتة، بل هو مسار مستمر من الوعي، والاختيار، والمراجعة الذاتية. فكلما تعمّق الإنسان في فهم نفسه، وامتلك استقلاليته، وتقبّل تعددية أدواره، استطاع أن يعيش حياة أكثر اتزاناً وصدقاً مع ذاته.
ما رأيك متابعة ما هي أهم المشكلات التي تواجه الشباب؟
وفي عالم يتغير باستمرار، تبقى الهوية الواضحة هي الجذور التي تمنحنا الثبات، مهما اشتدت الرياح.





