في عصر يتسارع فيه التطور التكنولوجي والمعرفي بشكل غير مسبوق، لم يعُد التعليم التقليدي كافياً لتلبية حاجات الأجيال الصاعدة، خصوصاً في ظل بروز الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يعيد تشكيل ملامح سوق العمل، وأنماط الحياة، وحتى طبيعة المهارات المطلوبة للنجاح. في هذا السياق، يبرز التعلُّم الذاتي كأحد أهم المهارات الحيوية التي لا غنى عنها للشباب.
فالشباب اليوم لا يحتاجون فقط إلى ما يُقدَّم في الصفوف الدراسية، بل هم بحاجة إلى القدرة على البحث، الفهم، التقييم، والتطبيق بأنفسهم. التعلم الذاتي يمنحهم القدرة على مواكبة المستجدات، التكيف مع التحولات السريعة، وتطوير مهارات جديدة باستمرار دون الاعتماد الكامل على مؤسسات تعليمية. اختصاصية الصحة النفسية الدكتورة فرح الحر تشرح لـ"سيدتي" حول أهمية التعلم الذاتي للشباب في عصر الذكاء الاصطناعي.
التعلُّم الذاتي.. ضرورة في عصر المعرفة

في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث باتت الآلات قادرة على أداء مهام متكررة ومعقدة، تتزايد الحاجة إلى عقول قادرة على التفكير النقدي، الإبداع، والتعلم المستمر. من هنا، لا يعود التعلم الذاتي خياراً، بل ضرورة، تُمكن الشباب من أن يكونوا فاعلين، مرنين، ومؤثرين في مجتمعاتهم وفي الاقتصاد الرقمي العالمي.
في هذا العصر، ومع تسارع التغيرات المعرفية والتقنية، لم يعُد التعليم التقليدي وحده كافياً للجيل الجديد؛ كي يواجه تحديات المستقبل. لذلك، أصبحت القدرة على التعلم الذاتي ضرورة، لا مجرد خيار.
يُعَدُّ التعلم الذاتي مهارة أساسية تساعد الشباب على التميز، والنمو، والازدهار، وتحقيق الحرية الشخصية.
فهو لا يقتصر فقط على اكتساب مهارات جديدة، بل يُعَدُّ بوابة نحو الاستقلالية، والثقة بالنفس، واتخاذ القرارات بشكل أفضل.
ما رأيك بمتابعة التعليم الذاتي وأهميته في تطوير الشباب بحسب مختصة؟
عندما يتعلم الإنسان، تحدث عدة عمليات نفسية وعصبية مهمة:
- تنشيط الدافعية الداخلية: أول خطوة في التعلم الذاتي هي وجود دافع داخلي حقيقي، وليس شعوراً بالإجبار. هذه الدافعية تحفز مراكز المكافأة في الدماغ، وتؤدي إلى إفراز الدوبامين، وهو ناقل عصبي يسبب شعور بالحماس والإنجاز، حتى من دون مكافأة أو تحفيز خارجي.
- زيادة التركيز وتحسين الذاكرة: عندما يكون لدى الإنسان دافع حقيقي للتعلم، يزداد تركيزه وتتحسن ذاكرته، كما يشعر برضا نفسي أكبر تجاه ما ينجزه.
- تعزيز الثقة بالنفس: كل مهارة يكتسبها الفرد بنفسه تعزز إيمانه بقدراته. هذا يقلل من التردد أو الخوف من الفشل، ويجعله أكثر استعداداً لمواجهة التحديات.
- الاستقلالية النفسية: الشخص الذي يتعلم ذاتياً يشعر بأنه لا يعتمد على أحد، وأنه قادر على قيادة نفسه وتحقيق أهدافه بمفرده؛ ما يقوي إحساسه بالسيطرة والثقة.
التعلم الذاتي ضرورة وجودية

التعلم الذاتي لا يطور المعرفة فقط، بل يبني شخصية قوية ومستقلة ومبادِرة.
يعزز التعلُّم الذاتي الاستقلالية الفكرية لدى الفرد؛ فحين يعتمد الإنسان على نفسه في اكتساب المعرفة، لا يكون تابعاً للآخرين، بل يُكوِّن رأيه الخاص استناداً إلى البحث والتجربة. وهذا يُكسبه شخصية أقوى، ويزيد من احترامه في محيطه، كما يُؤهِله للقيادة في المستقبل.
كذلك، فإن المتعلِّم ذاتياً يتمتع بمرونة اجتماعية؛ إذ يصبح أكثر تقبلاً للاختلاف، وأكثر قدرة على التفاعل مع بيئات متنوعة وآراء متعددة؛ لأنه اعتاد البحث، والفهم، والتكيف.
ويُضيف التعلُّم الذاتي بُعداً مهماً في عالم يغلب عليه التكرار، حيث يدرس معظم الناس المناهج نفسها. أما من يطور مهاراته بشكل مستقل؛ فإنه يتميز ويبرز في هذا الوسط المتشابه.
ومن الجوانب المهمة التي تؤكد فاعلية التعلُّم الذاتي، ما توصلت إليه دراسات علم الأعصاب: فالدماغ بطبيعته يُفضِّل التعلُّم النشط. وقد ثبت أن المتعلِّم يحتفظ بالمعلومة لمدة أطول عندما يكون هو من يختار المحتوى، ويربطه بتجربته الشخصية، ثم يعيد شرحه ويُطبقه. وهذا ما يجعل التعلُّم الذاتي محفزاً للدماغ، منشطاً للذاكرة، ومعززاً للفهم العميق.
وهناك مفهوم يُضاف إلى التعلُّم الذاتي يُعرف بـ"حالة التدفُق" (Flow)، وهي حالة ذهنية يبلغ فيها الإنسان أعلى درجات التركيز والانغماس، خصوصاً عندما ينخرط في تعلُّم شيء يحبه واختاره بنفسه. في هذه اللحظات، يشعر المرء بسعادة عقلية فائقة، ويصبح أكثر قدرة على التعلُّم والإبداع؛ لأن دافعيته تكون عالية، وأداؤه في أفضل حالاته.
وأخيراً، يمكن القول إن التعلُّم الذاتي يحتاج إلى خطوات محددة، تبدأ بطرح أسئلة ذاتية مثل:
"ماذا أريد أن أتعلم؟ ولماذا؟ وإلى أين أريد أن أصل؟ وما النتيجة التي أطمح لتحقيقها؟"
ثم يأتي دور اختيار المصادر الموثوقة، وتقسيم المحتوى إلى وحدات صغيرة قابلة للتطبيق، مع تقييم الذات باستمرار، والاحتفال حتى بأصغر الإنجازات.
يمكنك الاطلاع على: ما المهارات التي على الطالب الجامعي تطويرها مبكراً؟
وفي نهاية المطاف، أصبح التعلُّم الذاتي، في ظل هذا التطور المتسارع وفي عالم لا يعترف إلا بالمهارات والإنجازات، ليس مجرد وسيلة، بل ضرورة وجودية.
إنها مهارة تُكسب الشباب قوة معرفية، ومرونة نفسية، وتأثيراً اجتماعياً واسعاً.