mena-gmtdmp

لينا الغطمة.. معمارية تنصت للأرض وتبني للغد 

 المعمارية اللبنانية الفرنسية لينا الغطمة
المعمارية اللبنانية الفرنسية لينا الغطمة

في عالمٍ، تتقاطعُ فيه الذاكرةُ مع الحداثةِ، تبرزُ المعمارية اللبنانية الفرنسية لينا الغطمة بوصفها من أهمِّ المعماريَّاتِ في عصرنا. هي تحملُ معها هويَّةً لبنانيَّةَ الجذورِ، إذ صاغت بيروت وجدانَها الأوَّل، ورؤيةً إنسانيَّةً عابرةً للحدود حيث احتضنت باريس إبداعها.  لينا، تُنصِتُ إلى الأرض، وتستخرجُ من تفاصيلها لغةً خاصَّةً، فهي تنسجُ من الضوءِ، والموادِّ حكاياتٍ عن الزمنِ، والانتماءِ، والجمال، بل إن الصحافةَ العالميَّة، لقَّبتها بـ «عالمةِ آثارِ المستقبل»، كونها تستوحي تصاميمَها من الذاكرةِ الجماعيَّةِ للمكان، وتمزجُ بين ما كان وما سيكون في مشهدٍ معماري بديعٍ، يحملُ روحَ الشعرِ وحداثةَ الفكر. كذلك، وفي اعترافٍ عالمي بفرادةِ نهجها، اختارتها مجلَّةُ TIME ضمن قائمةِ أكثر 100 شخصيَّةٍ تأثيراً في العالم، لتُصبح صوتاً عربياً، يُعبِّر عن الحاضر، ويُعيد رسمَ ملامحِ المستقبلِ من منظورٍ إنساني وثقافي عميقٍ.

 

حوار | لمى الشثري Lama AlShethry
تنسيق | ساره مرتضى Sarah Mourtada
تصوير | كاميليا مينارد Camellia Menard 
منسّق الأزياء | إتيانّ جانسون Etienne Jeanson
مكياج وشعر | مورغان هيلجير Morgane Hilgers
موقع التصوير | استوديو لينا الغطمة - باريس

 

غلاف سيدتي
               غلاف سيدتي لـ  عدد نوفمبر 2025

تصفحوا النسخة الرقمية لـ عدد نوفمبر 2025 من مجلة سيدتي

 

لينا الغطمة

فستان من إيسيه مياكي Issey Miyake

 

بين الحلمِ والحجر، تصوغُ لينا رؤيتَها بوصفها رحلةَ بحثٍ عن الجمالِ الدائمِ حيث لا تنفصلُ العمارةِ عن الإنسان، ولا تنفصلُ الذاكرةُ عن الغد. إنها معماريَّةٌ من ضوءٍ وذاكرةٍ، تُحوِّل الفضاءَ إلى قصيدةٍ، والمبنى إلى حكايةٍ، تُروى بلغةٍ منحنيةٍ بين الفنِّ والهويَّة.

وُلِدَت الغطمة في بيروت، ونشأت في هذه المدينةِ العريقةِ متعدِّدةِ الثقافات، وعلى الرغمِ من رغبتها في أن تُصبح عالمةَ آثارٍ إلا أنها اختارت دراسةَ الهندسةِ المعماريَّةِ في جامعةِ American University of Beirut، وبعد تخرُّجها، ونيلها Azar Prize وAreen Prize، استلهمت مفاهيمَ الذاكرةِ، والمكانِ، والمنظرِ الطبيعي من منهجيَّتها الخاصَّة، كما تابعت دراستها بـ École Spéciale d’Architecture في باريس، وشغلت أيضاً منصبَ أستاذةٍ مُشاركةٍ بين عامَي 2008 و2015.

وعلى صعيدِ الجوائز، فازت لينا في المسابقةِ الدوليَّةِ لتصميمِ Estonian National Museum، لتُؤسِّس بعد هذا النجاحِ أوَّلَ استديو لها في باريس تحت اسم DGT Architects. كذلك حصدت عديداً من الجوائز، من أبرزها Schelling Architecture Prize عامَ 2021، وTamayouz Woman of Outstanding Achievement في 2020، وFrench Fine Arts Academy Cardin Award عامَ 2019. وفي 2021، تمَّ تعيينها أستاذةً وعضواً في IAA International Academy of Architecture.

هذه مقدِّمةٌ بسيطةٌ عن مسيرةِ المبدعةِ لينا الغطمة، التي استقبلت «سيدتي» في الاستديو الخاصِّ بها بقلبِ باريس، حيث يمتزجُ عبقُ التاريخِ بنبضِ الحداثة، في جلسةِ تصويرٍ، كان لروحِ المكان، وسكونِ الفكر تأثيرٌ فيها، فهناك بين النماذجِ المعماريَّة، والرسوماتِ المعلَّقةِ على الجدران، تتجسَّدُ رؤيتَها بصدقٍ وجمالٍ. إنها امرأةٌ، تنحت أحلامَها بالحجر، وتُحوِّل الفضاءَ إلى رسالةٍ عن الإبداعِ، والانتماءِ، والإيمان العميقِ بأن العمارة، يمكن أن تكون لغةً للروح، وجسراً بين الحلمِ والواقع. في هذا المكانِ، كما في كلِّ مشروعٍ لها، تتجلَّى إبداعاتُ معماريَّةٍ، تُبصِرُ المستقبلَ بعينِ الماضي، وتستمرُّ في بناءِ الجمال كما لو كانت تُعيد ترتيبَ ملامحِ العالمِ بخطوطٍ من ضوءٍ وذاكرةٍ.

ما رأيك بمتابعة الشيخة بدور القاسمي: كل فصل في رحلتي مشحون بالمشاعر ولحظات الفرح

 

مشروع لينا الغطمة
 مشروع ورشة هيرميس، نورماندي
Lina Ghotmeh — Architecture | photo © Iwan Baan | © Hermès, 2023©

 

 

«من المهم للغاية إعادة التواصل مع ثراء تراثنا العربي الثقافي والمعماري الممتد عبر مناطقَ وتقاليد شاسعة، لكنّه موحد في تاريخ ولغة مشتركة»


المهندسة المعماريَّة الإنسانيَّة

 المعمارية اللبنانية الفرنسية لينا الغطمة



تُعرِّفين نفسكِ بأنك معماريَّةٌ إنسانيَّةٌ، حدِّثينا عن هذا الوصف، وكيف جاء التحوُّلُ في البداياتِ من الاهتمامِ بعلمِ الآثار إلى الهندسةِ المعماريَّة؟

أعتقدُ أن الكاتباتِ والصحفيَّاتِ وصفنني بـ «المهندسةِ المعماريَّةِ الإنسانيَّة»، لأن عملي يبدأ بالإنسانِ، والتاريخِ، والمكان. بالنسبةِ لي، العمارةُ، ليست محايدةً أبداً، بل هي سياسيَّةٌ، واجتماعيَّةٌ، وعاطفيَّةٌ في جوهرها. لطالما كان اهتمامي بعلمِ الآثار، ينصبُّ على فهمِ طبقاتِ الذاكرةِ والسياق. لقد أصبحت العمارةُ بالنسبةِ لي وسيلةً لتحويلِ هذا الفهمِ إلى فضاءٍ حي بترجمةِ التاريخِ، والحِرفيَّةِ، والذاكرةِ إلى مبانٍ، تخدمُ المجتمعات، وتتفاعلُ مع البيئة، وتستحضرُ تجاربَ إنسانيَّةً ذات معنى. أُطلِقُ على هذه المنهجيَّةِ اسمَ «علمِ آثار المستقبل»، والمقصودُ: التنقيبُ في آثارِ المكان، لتخيُّلِ مساحاتٍ، تُكرِّم الماضي، وتنفتحُ في الوقتِ نفسه على مستقبلٍ مستدامٍ وواعٍ.

خلال مسيرتكِ المهنيَّةِ المتنوِّعة، مررتِ بكثيرٍ من المحطَّاتِ المهمَّةِ، منها العملُ لأعوامٍ عدة مُحاضِرةً مساعدةً في École Spéciale d’Architecture، ماذا أضافت لك هذه المحطَّة؟

التدريسُ، شكَّل نقلةً نوعيَّةً في مسيرتي. لقد تطلَّب مني الأمرُ التعبيرَ عن أفكاري، والتأمُّلَ فيها باستمرارٍ، والتفاعلَ مع الطلَّابِ والطالباتِ الذين يتحدُّون الافتراضاتِ، وإعادةَ النظرِ في أساسيَّاتِ العمارةِ بفضولٍ متجدِّدٍ، وقد عزَّز ذلك إيماني بأن العمارةَ، تدورُ حول الحوارِ بقدرِ ما تدورُ حول التصميم.

بالنسبةِ لي، يُعدُّ التدريسُ فرصةً ثمينةً للتبادلِ مع الجيلِ القادم، ولطالما كانت أولويَّتي مساعدةَ الطلَّاب والطالباتِ على تنميةِ التفكيرِ النقدي لديهم، وتشجيعهم على النموِّ بشكلٍ فردي مع تعلُّمِ التعاونِ، وتقديرِ العملِ الجماعي. الأمرُ، يتعلَّقُ بإبرازِ إمكاناتهم، وتنميةِ صبرهم، وفضولهم تُجاه العالم. هذه الفلسفةُ، هي التي قادت «سبوليا الأوَّل»، استديو التصميمِ الذي أدرته مع جامعةِ هارفارد، إذ ركَّز على العملِ مع الحجرِ بوصفه مادةً حيَّةً مستكشفاً خصائصَه الماديَّة، وتاريخَه، وانعكاساته الثقافيَّة. الاستديو، دعا الطلَّابَ والطالباتِ إلى فهمِ العمارةِ من خلال الموادِّ، والتساؤلِ عن كيفيَّةِ حملِ مادةِ البناءِ الذاكرةَ، والوقتَ، والمعنى. من خلال التجاربِ العمليَّةِ والتصميم، درسَ الاستديو كيف يمكن للحجرِ أن يُثري التفكيرَ المكاني، والحِرفيَّةَ، والاستدامةَ في الممارسةِ المعاصرة. وفي نهايةِ المطاف، أريد لطلَّابي وطالباتي أن يكتشفوا أن الهندسةَ المعماريَّة، ليست مجرَّد مهنةٍ، بل هي طريقةٌ للرؤية، وعدسةٌ يمكن من خلالها التفاعلُ مع العالمِ بحساسيَّةٍ والتزامٍ.

 المعمارية  لينا الغطمة

 

«فضولي السبب الرئيس وراء ممارساتي البحثية وهناك رغبةٌ دائمةٌ في البحث عن المعرفة وتطبيقها في العمارة»


بناء هوية معمارية راسخة

 

متحف تراث
   متحف تراث التجديديين في بخارى - أوزبكستان

 

ما التحدِّياتُ التي يمكن أن تواجه المبدعين في مجالِ الهندسةِ المعماريَّةِ عالمياً وعربياً؟

من أكبر التحدِّياتِ التي تواجه المبدعين والمبدعاتِ في مجالِ العمارة بالعالمِ العربي مهمَّةُ بناءِ هويَّةٍ معماريَّةٍ راسخةٍ. يجبُ على العمارةِ أن تعتزَّ بتراثنا، وأن تستجيبَ بوعي لمناخنا، وأن تتفاعلَ بشكلٍ هادفٍ مع بيئتنا. هذا النهجُ أساسي لاستعادةِ كرامةِ المجتمعات، وإحياءِ شعورِ التعلُّقِ بالأرضِ التي نعيشُ عليها، والاهتمامِ بها. في العالمِ العربي، من المهمِّ للغايةِ إعادةُ التواصلِ مع ثراءِ تراثنا الثقافي والمعماري الذي يمتدُّ عبر مناطقَ وتقاليدَ شاسعةٍ، لكنَّه موحَّدٌ في تاريخٍ ولغةٍ مشتركةٍ. انطلاقاً من هذا الفهمِ الراسخ، يمكن للقادةِ رفعُ سقفِ الطموحات، وتعزيزُ الثقافةِ عبر تصميمٍ مدروسٍ، وتمكينُ المهندسين والمهندساتِ المعماريين من البناءِ، أو إعادةِ البناءِ بفخرٍ وعنايةٍ واستشرافٍ للأجيالِ القادمة. العمارةُ ليست مجرَّد مهنةٍ، بل هي أداةٌ أيضاً لتشكيلِ الهويَّة، ورعايةِ المجتمع، وإلهامِ الاستمراريَّةِ عبر الزمن.

تتولِّين مهمَّةَ تصميمِ وتطويرِ عددٍ من المتاحفِ العالميَّة، كيف بدأ شغفكِ بالمتاحف، وكيف تصفين علاقتَها بالإنسان؟

شغفي بدأ بفضولٍ تُجاه التاريخ، وكيفيَّةِ تأطيرِ العمارةِ للذاكرة. المتاحفُ مساحاتٌ استثنائيَّةٌ، تتقاطعُ فيها القصصُ، والثقافاتُ، والمعرفة، وهي فضاءاتٌ حيَّةٌ، تُجسِّد الحضارةَ الإنسانيَّة، وتحتفي بالحِرفيَّةِ والإبداع، وتتيحُ للزوَّارِ فرصةَ التأمُّلِ والحوار. كلُّ متحفٍ، من المتحفِ الوطني الإستوني إلى مداخلاتِ المتحفِ البريطاني، يُمثِّل فرصةً لخلقِ مساحاتٍ، تُثير الفضولَ، والتعاطفَ، والفهم.

حدِّثينا عن نشأتكِ في بيروت، وما أهميَّةُ برجِ «ستون جاردن» الأيقوني بالنسبةِ لك، وهو الذي كان له حضورٌ في بينالي البندقيَّة 2021؟

نشأتي في بيروت علَّمتني الصمودَ، وأهميَّةَ الذاكرةِ في العمارة. المدينةُ، تحملُ ندوبَ الحربِ والنزوح، لكنَّها في الوقتِ نفسه، تزخرُ بالحياةِ، والتجدُّد. برجُ «ستون جاردن»، يُجسِّد هذه الثنائيَّة، إذ يُحوِّل تاريخَ بيروت متعدِّد الطبقاتِ إلى منحوتةٍ مأهولةٍ عبر الجمعِ بين العناصرِ الطبيعيَّةِ والحِرفيَّةِ في نهجٍ شاعري وبيئي.

يمكنك أيضًا متابعة الشيخة هلا بنت محمد آل خليفة: تراثنا البحريني بجماله وتنوعه شكّل هويتي

من أعمال لينا الغطمة

«نوافذ من نور»

فستان من ميزون ربيع كيروز Maison Rabih Kayrouz
سوار من لويس فويتون Louis Vuitton Fine Jewellery


ماذا يكشفُ كتابُ «نوافذ من نور» عن شخصيَّةِ لينا الغطمة؟

«نوافذ من نور»، يكشفُ جوهرَ هويَّتي بوصفي معماريَّةً وإنسانةً. إنه انعكاسٌ لفضولي، وحساسيَّتي تُجاه البحث، وانغماسي العميقِ في الضوءِ بوصفه وسيطاً مادياً وعاطفياً. الكتابُ، يُظهِرُ كيف أتعاملُ مع العمارةِ كتفاعلٍ بين الزمانِ، والمكانِ، والوجودِ الإنساني، وكيف أستكشفُ طبقاتٍ من التاريخِ، والحِرفةِ، والثقافةِ لأخلقَ مساحاتٍ حيَّةً، ونابضةً بالحياة. من خلال صورِ بيروت، وحديقةِ الحجر، ورسوماتِ الحبر، ينقلُ «نوافذ من نور» شغفي بأصولِ الأشياء، واهتمامي بالتفاصيل، ورغبتي في ترجمةِ المشاعرِ والتجاربِ إلى أشكالٍ معماريَّةٍ. في نهايةِ المطاف، إنه نافذةٌ على نظرتي للعالمِ بوصفي إنسانةً يقظةً، ومتعاطفةً، ودائمةَ البحثِ عن الشاعريَّةِ في التطبيقِ العملي.

في سنٍّ صغيرةٍ، أسَّستِ أوَّلَ استديو معماري خاصٍّ بكِ في باريس قبل نحو عقدَين من الزمن، كيف تصفين هذه الرحلةَ منذ الإنشاءِ وحتى اليوم؟

كان تأسيسُ الاستديو بادرةً من الشجاعةِ والفضول. منذ البدايةِ، أردتُ تأسيسَ ممارسةٍ فنيةٍ متجذِّرةٍ في البحثِ، والحِرفيَّةِ، والمسؤوليَّةِ البيئيَّة، وعلى مرِّ السنين، تمحورت رحلتي حول تعلُّمِ كيفيَّةِ تكييف فلسفتنا مع الثقافاتِ، والمقاييسِ، والبرامج، من المتاحفِ إلى المساكنِ، وورشِ العملِ والأجنحة. وقد عزَّز كلُّ مشروعٍ التزامنا بإنشاءِ مساحاتٍ حسَّاسةٍ، تتمحورُ حول الإنسان، وترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بسياقها.

من أعمال لينا الغطمة
من أعمال لينا الغطمة


خلق منصات للنساء للقيادة

إطلالة من ميزون ربيع كيروز Maison Rabih Kayrouz



بوصفكِ امرأةً، تملكُ بصمةً واضحةً في عالمٍ ربما تكون نسبةُ الرجال فيه أكثر من النساء، كيف ترين المقارنةَ بين المجالِ المعماري العالمي والعربي في حضورِ المرأةِ والكوادرِ النسائيَّة؟

تواجه النساءُ في مجالِ العمارةِ تحدِّياتٍ في كلِّ مكانٍ سواء تعلَّقَ الأمرُ بالظهورِ، أو التمثيلِ، أو التقدير. عالمياً، تتزايدُ الفرص، لكنْ التحيُّزاتُ، لا تزالُ قائمةً، أمَّا في العالمِ العربي، فتضعُ النساءُ الموهوباتُ بصماتهن بشكلٍ متزايدٍ على الرغمِ من العوائقِ الاجتماعيَّةِ والهيكليَّة. الأهمُّ، هو خلقُ منصَّاتٍ للنساءِ للقيادةِ، والتعاونِ، والتأثيرِ في الحوار. الظهورُ، يُحمِّل المسؤوليَّة، وبالنسبةِ لي، هو فرصةٌ لتوجيه الجيلِ القادمِ وإلهامه.

ما أبرزُ التحدِّياتِ التي واجهتكِ في مساركِ المهني؟

الهندسةُ المعماريَّةُ شغفٌ، يدفعني لمواجهةِ التحدِّياتِ المعقَّدةِ باستمرارٍ، وتحويلِ الرؤيةِ إلى واقعٍ. البناءُ عمليَّةٌ طويلةٌ ومعقَّدةٌ، تتطلَّبُ من المهندسةِ المعماريَّةِ تنسيقَ فرقٍ متعدِّدةِ التخصُّصات من المهندسين والمهندسات، وخبراءِ التكلفة، ومصمِّمي المناظرِ الطبيعيَّة، وغيرهم، هذا مع إتقانِ الوقت، وعمليَّاتِ البناء، وفنِّ الصنع. ما تقدَّم مسعى إنساني بامتيازٍ حيث يجمعُ الجميع، بمَن فيهم العميل، تحت رؤيةٍ مشتركةٍ مع المطالبةِ المستمرِّةِ بالجودةِ، والدقَّةِ، والعناية. الهندسةُ المعماريَّة، بكلِّ معنى الكلمة هي مسعى رياضي، وأنا مغرمةٌ بها للغاية.

تابعي معنا البروفيسورة مناهل ثابت في لقاء حصري في منزلها: الانتماء إلى السعوديّة امتنانٌ لا ينتهي

 

متحف
   متحف الفن المعاصر في العلا

 

 

«المتاحف فضاءاتٌ حيةٌ تجسّد الحضارة الإنسانية وتحتفي بالحرفية والإبداع وتتيح للزوار فرصةً للتأمّل والحوار»


العمارة جسر بين الثقافات

توب وبنطلون من إيسيه مياكي Issey Miyake
حذاء من بيار هاردي Pierre Hardy



ما تعريفكِ لمفهومِ التبادلِ الثقافي، وكيف يُمارَس من خلال العمارة؟

التبادلُ الثقافي في العمارة، هو حوارٌ، يتجلَّى عبر الإنصاتِ إلى المكان، وفهمِ تاريخه، وترجمته إلى لغةٍ، تلقى صدى محلياً وعالمياً. جناحُ البحرين في «إكسبو 2025 أوساكا» مثالٌ رائعٌ على ذلك حيث تلتقي تقنيَّاتُ الحِرفِ الخشبيَّةِ اليابانيَّةِ بالتراثِ البحري البحريني. هذا يعني أن العمارةَ جسرٌ بين الثقافات، وتُعزِّز الاحترامَ، والتفاهمَ، والتجاربَ المشتركة.

رؤيتُكِ، تتميَّزُ بالأسلوبِ البسيطِ المُركَّب الذي يُعنى بتعزيزِ الهويَّةِ، والالتزامِ بالاستدامة، من وجهةِ نظركِ، كيف يُحافظ المهندسُ المعماري على بصمتِه في التصميمِ في عالمنا المتغيِّرِ باستمرارٍ؟

تنبعُ هويَّةُ التصميمِ من الالتزامِ بالقيمِ الجوهريَّةِ، وهي احترامُ الناسِ، والموادِّ، والحِرفِ، والبيئة. وبينما تتغيَّرُ الاتِّجاهاتُ، والتقنيَّاتُ، والسياقات، تبقى مبادئ البحثِ والحساسيَّةِ والمسؤوليَّة ثابتةً. الهويَّةُ الحقيقيَّة، تتجلَّى كعالمٍ شعري، وتجربةٍ متعمِّقةٍ في مدى تعمُّقِ المهندسةِ المعماريَّةِ في كلِّ مشروعٍ، وبنائه، وتاريخه، وأهميَّته للناس، وليس في التكرارِ الأسلوبي.

تتضمَّنُ أجندةُ أعمالكِ مشروعاتٍ استثنائيَّةً مع بعض دولِ الخليجِ العربي، منها جناحُ قطر الدائمُ في The Giardini ضمن بينالي البندقيَّة، والجناحُ الوطني للبحرين في «إكسبو 2025 أوساكا»، ومتحفُ العُلا في السعوديَّة، ما الذي يُميِّز ثقافةَ الخليج العربي؟

تتميَّزُ ثقافةُ الخليجِ العربي بصلتها العميقةِ بالأرضِ، والتاريخِ، والحِرف، إلى جانبِ سعيها الحثيثِ نحو الابتكارِ، والحوارِ العالمي. إنها ثقافةُ الكرمِ، والضيافةِ، والتبادل، وهي صفاتٌ، تتجلَّى في العمارةِ مع مساحاتٍ، تحتفي بالضوءِ، والمادةِ، والتجمُّعاتِ المجتمعيَّة. هذه الأرضُ خصبةٌ، وتسعى اليوم جاهدةً للتعبيرِ عن هويَّتها الخاصَّة، والتألُّقِ بها على الساحةِ العالميَّة.

فازَ جناحُ البحرين في معرضِ «إكسبو 2025 أوساكا» بالجائزةِ الذهبيَّةِ عن فئةِ «أفضل عمارة»، حدِّثينا عن تصميمِ الجناح؟

جناحُ البحرين في «إكسبو 2025 أوساكا» سفينةٌ للذاكرةِ، والحِرفيَّةِ، والحوارِ الثقافي. هو مستوحى من المراكبِ الشراعيَّةِ التقليديَّة، تلك القواربُ الخشبيَّةُ التي لطالما حملت الناسَ، والأفكارَ، والبضائعَ عبر الخليج. يروي الجناحُ قِصَّةَ الماضي والمستقبل، والبحرين واليابان، والتقاليدِ والابتكار. هيكلُه، المصنوعُ من 3000 قطعةٍ خشبيَّةٍ قابلةٍ لإعادةِ الاستخدام، يجمعُ بين الحِرفيَّةِ البحرينيَّة، والدقَّةِ اليابانيَّة، ما نتجَ عنه تصميمٌ خفيفُ الوزن، ومعياري، ومستدامٌ، أمَّا شكلُه المفتوحُ، الشبيه بالمراكبِ الشراعيَّة، فيدعو الزوَّارَ إلى التنقُّلِ فيه، والتأمُّلِ، وتجربةِ تفاعلِ الضوءِ والظلِّ، بينما يتسلَّلُ ضوءُ النهارِ عبر الشبكاتِ الخشبيَّة، مُردِّدين صدى إيقاعِ البحر. كذلك يعكسُ كلُّ عنصرٍ المسؤوليَّةَ البيئيَّةَ من موادَّ محليَّةِ المصدر، إلى جانب التهويةِ الطبيعيَّةِ، والتبريدِ السلبي، وقابليَّةِ التكيُّف. عليه، يُعدُّ الجناحُ مثالاً حياً على العمارةِ التي تحتفي بالحِرفيَّةِ، والذاكرةِ الثقافيَّةِ، والحساسيَّةِ البيئيَّة مع توفيرِ مساحةٍ للتواصلِ الإنساني والاستكشاف، ويستمتعُ به الزوَّارُ من مختلف أنحاء العالم أثناء التجوُّل فيه.

عملتِ على مشروعاتٍ مع دورِ أزياءٍ عالميَّةٍ، منها تصميمُ مبنى ورشةِ عملِ Hermès في فرنسا، كيف بدأت الفكرةُ لديكِ؟

مشروعُ ورشةِ هيرميس في لوفييه Louviers، نورماندي، كان مسابقةً، فازَ بها مكتبي كما هو الحالُ في عديدٍ من مشروعاتنا. التصميمُ، انبثقُ من رغبتي في خلقِ مساحةٍ، يُحتفى فيها بالحِرفيَّةِ، والماديَّةِ، والخبرةِ الإنسانيَّةِ من خلال الهندسةِ المعماريَّة. هيرميس، ليست مجرَّد علامةٍ تجاريَّةٍ، وإنما مستودعٌ حي للمعرفةِ، والمهارةِ، والتقاليد، إذ تُقدِّس عمليَّةَ التصنيع، لذا لم يكن الهدفُ بناءَ مبنى عملي فقط، إذ رغبنا أيضاً في إضفاءِ شكلٍ معماري على القيمِ غير الملموسةِ للحِرفيَّة، وخفَّةِ الوزن، والدقَّة التي تُميِّز العلامةَ لاقتراحِ هندسةٍ معماريَّةٍ، تتجاوزُ الوظيفة. منذ البداية، تعاملنا مع المشروع بوصفه حواراً مع المشهدِ المحلي، والحِرفيين، والموادِّ نفسها، فقد تمَّ إنتاجُ أكثر من 500.000 طوبةٍ في الموقعِ باستخدامِ ترابه، ما أرسى دعائمَ المبنى في سياقه، واستُخدِمَ الخشبُ في صنعِ هياكلَ خفيفةِ الوزن ومرنةٍ، تعكسُ لمساتِ الحِرفيين، وتقاليدَ البناءِ في نورماندي، وصُمِّمت كلُّ تفصيلةٍ من انحناءِ الجدرانِ إلى إيقاعِ الضوءِ الطبيعي الداخلِ إلى الورش بوصفها جزءاً من منظومةٍ، تُنمِّي الإبداعَ، والمهارةَ، والرفاهيَّة.

ما نصيحتُكِ للمهتمِّين بفنونِ العمارةِ من فئةِ الشباب؟

دخولُ الهندسةِ المعماريَّة، يجبُ أن يكون نتاجَ شغفٍ حقيقي. يجبُ أيضاً التحلِّي بالصبر، وتقبُّلُ التعقيد، وتعلُّمُ التوفيقِ بين الجانبَين العملي والخيالي، هذا مع الحرصِ على أن تكون إحدى قدمَيك ثابتةً، والأخرى بعيدةً عن الواقع.

ما مصدرُ إلهامكِ، وكيف تُبقين شعلةَ الشغفِ متَّقدةٍ لديكِ؟

فضولي، هو السببُ الرئيسُ وراءَ ممارساتي البحثيَّة. الأمرُ لا يتعلَّقُ بإلهامٍ سطحي، بل برغبةٍ دائمةٍ في البحثِ عن المعرفة، وتطبيقها في العمارة. أنا أنجذبُ للعلومِ، والفنونِ، والفلسفةِ، وعلمِ الأحياء، والطبيعةِ، وسياسةِ العالم، وأسعى مع فريقي لفهمِ السياقِ الأوسع، والعالمِ المصغَّرِ المحيطِ بكلِّ مشروعٍ حتى نُقدِّم عمارةً مدروسةً، ومتَّصلةً بالعالمِ من حولها.

ماذا يعني لكِ السفرُ، وهل من بلدٍ زرتِه، وله مكانةٌ خاصَّةٌ في قلبكِ؟

السفر فكري وعاطفي في آنٍ واحدٍ. هو خطوةٌ نحو لقاءِ الآخر، ولنُصبح نحن هذا الآخر. إنه ذلك التلقيحُ الضروري الذي يُثرينا نحن البشر، ثم إن أي مكانٍ أزوره له مكانةٌ خاصَّةٌ في قلبي وفي ذاتي، فاليابان مثلاً، كانت مصدرَ إلهامٍ كبيراً لي، أمَّا زيارتي الأخيرةُ، فكانت لأوزبكستان، وفيها انغمستُ عميقاً في التاريخِ العريقِ للعمارةِ في بخارى.

نلتِ جوائزَ عالميَّةً، وتمَّ إدراجُ لينا الغطمة ضمن تصنيفاتٍ وقوائمَ مهمَّةٍ مثل «نوابغ العرب»، وTIME100 Next، ولعلَّ عامَ 2025، هو الأبرزُ في تتويجِ الجهودِ التي بذلتها منذ انطلاقتكِ، ماذا تعني لكِ هذه الجوائز؟

الجوائزُ، والتقديراتُ فرصٌ لمشاركةِ القيم، ونشرِ أخلاقيَّاتٍ، تُحدِثُ أثراً إيجابياً في العالم، وتُسهم في جعله مكاناً أفضل. كذلك، هي تحملُ في طيَّاتها مسؤوليَّةً، تُذكِّرني بضرورةِ مواصلةِ السعي لتحقيق مستوى الجودةِ والنزاهةِ الذي أريده.

ما حلمُكِ الكبير؟

مواصلةُ الحلم.

تظهرين اليوم على غلافِ مجلَّةِ «سيدتي» العريقةِ عبر لقاءٍ، نحتفي فيه بموهبتكِ وإنجازاتكِ، هل من كلمةٍ تُوجِّهينها بشكلٍ خاصٍّ لقرَّائها ومتابعيها؟

أقول لقراء «سيدتي» إن الجمالُ مهمٌّ، فهو يُغذِّي روحنا، ويُشكِّل العالمَ من حولنا، لذا يجبُ أن يكون في متناولِ الجميع، فلكلٍّ منَّا القدرةُ على تجسيده في حياتنا اليوميَّة. سواء من خلال مبادراتٍ صغيرةٍ، أو إبداعاتٍ مدروسةٍ، أو مشروعاتٍ جريئةٍ، يُمكننا جميعاً ترك بصمةٍ إيجابيَّةٍ. آملُ أن نواصلَ الاحتفاءَ بالإبداعِ، والرعايةِ، والثقافة، وأن نُضفي معاً الجمالَ والمعنى على منطقتنا وما حولها.

 

فستان من ميزون ربيع كيروز Maison Rabih Kayrouz سوار من لويس فويتون Louis Vuitton Fine Jewellery
 فستان من ميزون ربيع كيروز Maison Rabih Kayrouz
 سوار من لويس فويتون Louis Vuitton Fine Jewellery

يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط