يُعدّ ضياء علام أحد أبرز فناني الخط العربي المعاصر والتجريدي، حيث راكم تجربة فنية ممتدة منذ التسعينيات، وواصل خلالها الإبداع والعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة. جمع في مسيرته بين الدراسة الأكاديمية في التصميم العمراني وتنسيق المناظر الطبيعية بجامعة القاهرة، وبين شغف مبكر بالخط العربي، بدأ بتحسين خط اليد في سنواته الأولى، ليتحوّل مع الوقت إلى ممارسة فنية متكاملة ولغة بصرية خاصة، شكّلت أسلوبه الإبداعي ومساره الفني. بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية التقت "سيدتي" بفنان الخط العربي ضياء علام وكان معه الحوار الآتي:
ما اللحظة أو التجربة التي جعلتك تتجه لاستخدام اللغة العربية كعنصر بصري رئيسي في أعمالك؟

حينما كنت في المدرسة، كنت أحب المنافسة مع أصدقائي في كتابة الحروف بأجمل شكل، وقد دفعتني تلك المنافسة إلى شراء الكتب وكتابة الخط بشكل جاد. ولكني لم أبدأ مساراً فنياً احترافياً إلا في عام 2011، عندما شعرت بأنني أريد أن أترك أثراً في هذا العالم وأن أجعل من الخط العربي وسيلة للتعبير الفني وليس مجرد كتابة. وهذه كانت لحظة تحول حقيقية في حياتي؛ إذ بدأت أشتغل بجد أكبر، وأنتج أعمالاً تحمل رسائل ومعاني أعمق، مقدماً الخط كفن بصري معاصر يمكن أن يتواصل مع الجمهور العالمي.
أكثر من مجرد كتابة
كيف تنظر إلى اللغة العربية: مادة تشكيلية، أم رمز ثقافي، أم لغة مشحونة بالمعاني؟
اللغة العربية بالنسبة لي أكثر من مجرد كتابة: إنها هوية ثقافية وروحية وذهنية. عندما أتعامل مع الحروف، أنا لا أتعامل مع أشكال مجردة فحسب، بل أتعامل مع ذاكرة لغة تمتد عبر قرون من الحضارة والتاريخ. الخط العربي هو النسيج المرئي لهذه اللغة، وهو يجمع بين الجمال والشكل والمعنى، ما يجعله وسيلة فنية قوية للتعبير عن الذات والهوية في آن واحد.
أريد أن أترك أثراً في هذا العالم وأن أجعل من الخط العربي وسيلة للتعبير الفني وليس مجرد كتابة
إلى أي مدى تؤثر الهوية والذاكرة والبيئة التي نشأت فيها على اختيارك للحروف والكلمات؟

تأثرت أعمالي دائماً بثقافتي العربية وبالبيئة الإماراتية التي أعيش فيها. الحروف بالنسبة لي ليست أشكالاً فقط؛ إنها ذاكرة وشعور وانتماء. أتغذى من الفضاء العمراني، من البيئة، ومن ذاكرة مشاهد الحياة اليومية، وكل ذلك يتغلغل في تكوين العمل الفني. الخط يعبر عن روح المكان والزمان؛ وفي الإمارات، حيث التقاء الثقافات وتنوعها، أجد الكثير من الإلهام الذي ينعكس في اختياراتي الحروفية والنصية.
أتجاوز حدود الورقة
هل تعتبر توظيفك للغة العربية محاولة للحفاظ عليها بصرياً، أم هو شكل من أشكال إعادة اكتشافها؟
الفن الذي أقدّمه هو مزيج بين الحفاظ وإعادة الإكتشاف. من جهة، أحمل في أعمالي إرث الحرف العربي وطابعه الأصيل. ومن جهة أخرى، أعمل على منحه شكلاً جديداً يتجاوز حدود الورقة والقلم التقليدي، من خلال التجريب بالأبعاد والمواد والوسائط الحديثة كالفن الرقمي، والـAugmented Reality، وحتى الأعمال ثلاثية الأبعاد. وهذا يمنح الخط العربي مكانة جديدة في الفن المعاصر ويكشف للجمهور العالمي أبعاداً غير متوقعة للحروف.
عندما تبدأ عملاً جديداً، ما الذي يأتي أولاً: الفكرة، أم النص، أم الخط، أم التكوين البصري؟
في بداياتي، غالباً الفكرة والصياغة المعنوية تأتي أولاً. أنا أبحث عن رسالة أو إحساس أو قصة يمكن ترميزها بصرياً، ثم تأتي الكلمات التي تخدم تلك الفكرة. بعد ذلك أبدأ في التفكير في شكل الحروف والخط المستخدم والتكوين المرئي بحيث تكون النتيجة عملاً متناغماً بين المعنى والشكل. الخط لا يكون هدفاً في حد ذاته، بل وسيلة للنطق البصري في العمل.
التعبير البصري

ما نوع الخطوط العربية التي تفضل استخدامها في لوحاتك، ولماذا؟
أنا لا ألتزم بأسلوب خط واحد فقط؛ بل أعمل على دمج أساليب الخط العربي التقليدي مع مفردات معاصرة. أميل لأن تكون الحروف مرنة تسمح بالتلاعب والتجريد والتكامل مع العناصر البصرية الأخرى. على سبيل المثال، خطوط مثل النسخ والرقعة قد توفر أساساً مضبوطاً، بينما الخط الحر أو التجريدي يمنحني حرية أكثر في التعبير البصري. الهدف هو تكوين أسلوب بصري يتناغم مع الرسالة والهوية الفنية.
أطمح أن أجعل اللغة العربية رسالة إنسانية وأخلاقية تتجاوز حدود السنن الفنية التقليدية
ما المواد أو الوسائط التي ترى أنها تخدم جماليات الحروف العربية بشكل أفضل؟
أنا أعمل عبر وسائط متعددة:
- Acrylic on Canvas – يوفر لي ثراء في الطبقات والألوان.
- المواد الرقمية والتقنيات الحديثة كـ AR وNFTs – تمنح الخط العربي بعداً جديداً ومتفاعلاً في الفضاء الرقمي.
- الأعمال الجداريّة تخدم الخط في سياقات حضرية وتوصل الرسالة إلى جمهور أوسع.
- التجارب الثلاثية الأبعاد تعزز الإحساس بالحرف ككائن حي في الفضاء.
الجمال الإنساني

ما الرسالة التي تحاول أعمالك إيصالها من خلال اللغة العربية؟
كل عمل يحمل قيمة إنسانية معينة: مثل التفاؤل، الكرم، الرحمة، والنمو. أطمح من خلال عملي أن أجعل اللغة العربية ليست فقط جميلة من حيث الشكل، بل مرسلة رسالة إنسانية وأخلاقية تتجاوز حدود السنن الفنية التقليدية.
الكلمات أو العبارات التي تظهر في أعمالك؟ هل تستند إلى الشعر، أم النصوص المقدسة، أم اليوميات، أم التجارب الشخصية؟
اختياراتي تأتي من مزيج من مصادر: أحياناً أستوحي من الشعر والأمثال العربية، أو من نصوص تحمل معاني إنسانية عميقة، وأحياناً من تجارب شخصية ومشاعر يومية. المهم هو أن تكون الكلمات قادرة على أن تتشكل بصرياً بشكل متكامل مع الفكرة.
تفاعل الجمهور
هل تحرص على أن يفهم المشاهد النص المكتوب، أم يكفيك أن يتفاعل مع شكله البصري فقط؟ وكيف تتعامل مع تأويلاتهم؟
أؤمن بأن العمل الفني يجب أن يتفاعل معه الجمهور على أكثر من مستوى:
- مستوى بصري أول يجذب العين.
- مستوى معنوي يمكن أن يعبر اللغة.
- مستوى تأويلي شخصي يُثير التساؤل والتفاعل.
لا أهدف إلى إلزام المتلقي بقراءة النصوص، بل أترك للعمل أن يعبّر عن نفسه، وأن يجذب المتلقي إمّا عبر المعنى اللغوي أو من خلال التفاعل البصري.
هل لاحظت اختلافاً في تفاعل الجمهور العربي مقابل الجمهور غير الناطق بالعربية؟
بالتأكيد، الجمهور العربي غالباً يتفاعل بمعانٍ أعمق لأن النصوص تحمل لديهم دلالات لغوية وثقافية. أما الجمهور غير الناطق بالعربية، فيميل إلى التفاعل مع الشكل والبناء الجمالي أولاً، وهذا لا يقلل من قيمة الرسالة، إنما يضيف طبقات متعددة من التفاعل مع العمل.
الحرف والمستقبل
ما أكثر رد فعل، أو انتقاد وصلك من الجمهور وأثر فيك؟
من أكثر ما أثر فيّ هو عندما يخبرني الجمهور أن العمل فتح لهم نافذة جديدة لفهم اللغة العربية بصرياً، أو أن أحدهم شعر بأن الحروف «تتكلم إليه» بطريقة عشتها ولم يتمكن من التعبير عنها بالكلمات. هذا التأثير العاطفي هو ما يجعلني أستمر في التجريب والتطوير.
هل ترى أن استخدامك للعربية يخلق نوعاً من التواصل أم القرب بين العمل والمتلقي؟
بالتأكيد، الحرف العربي يحمل في داخله ذاكرة ثقافية وعاطفية لدى المتلقي العربي، ويخلق نوعاً من العلاقة الفورية. حتى لدى غير العرب، فإن الخط يفتح جسوراً من الانبهار والتقدير لما يحمله هذا الشكل الفني من دلالات حضارية وجمالية.
هل تعرفت إلى الخط العربي بين الحِرفة والفن؟
كيف تتخيل تطور تجربتك مع اللغة العربية خلال السنوات القادمة؟
أتصور أن تجربتي ستواصل الاندماج بين الحرف العربي والتقنيات الحديثة، وأن الخط العربي سيتوسع ليشمل مجالات التفاعل الرقمي، الواقع المعزز، والفن العام العامودي، مما يمنح اللغة العربية حضوراً أعمق في ثقافة الفن العالمي.
هل ترغب في دمج لغات أخرى مع العربية في المستقبل، أم تفضل المحافظة على خصوصية حرف واحد؟
أنا منفتح دائماً على التجارب؛ لكن التركيز يبقى على قوة العربية. قد أستكشف دمج حروف ولغات أخرى بهدف الاحتفاء بالتواصل الحضاري وتوسيع نطاق الرسالة، دون أن أفقد مميزات الخط العربي وجوهره الثقافي.
الجمهور العربي غالباً يتفاعل بمعانٍ أعمق لأن النصوص تحمل لديهم دلالات لغوية وثقافية
لحظة تفاعل

لو أتيحت لك فرصة التعاون مع خطاط أو شاعر أو موسيقي، فمن تختار ولماذا؟
أتطلع للعمل مع من يقدر جمالية اللغة العربية ولها تأثير ثقافي عميق سواء كان شاعراً تُحدث حروفه موسيقى داخل العمل، أو موسيقياً يجعل الحرف يتنفس إيقاعاً جديداً. هذا النوع من التعاون يمكن أن يوحد الصوت البصري واللفظي والموسيقي في تجربة فنية متكاملة.
ما المشاريع الجديدة التي تعمل عليها، وتعتقد أنها ستفتح لك مساراً مختلفاً في استخدام النص العربي؟
أعمل على مشاريع تجمع بين الخط الرقمي، والتجارب في الواقع المعزز، والفن العام، كما أشارك في فعاليات وعروض حية تعزز التفاعل المباشر بين الجمهور والعمل الفني، وهذا ما يجعل الخط العربي ليس شيئاً يُشاهَد فقط، بل يُحسُّ ويعيش في لحظة تفاعل فريدة.
ما الكلمة العربية الأقرب إلى قلبك، وهل ظهرت في أحد أعمالك؟
من الكلمات التي أعمل بها كثيراً تلك التي تحمل معاني إنسانية عميقة كـ “أمل”، "نور”، "حياة”، و“سلام" فهي تتكرر في أعمال تحمل رسائل إيجابية وبصيرة أعمق للحياة. بينما قد يتغير التكوين البصري، تبقى هذه الكلمات جوهراً إنسانياً في داخلي.





