في فرنسا.. لماذا تهرب الفتيات القاصرات من بيوت ذويهن؟

بلغ عدد الأطفال والمراهقين القاصرين، الذين هربوا من بيوت أهاليهم في فرنسا، خلال السنة الماضية، قرابة 48 ألف حالة. وتمثل الفتيات القاصرات النسبة الأكبر من بين هذه الأعداد. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن هذه الأعداد تزايدت خلال السنوات العشر الماضية بنسبة 40%.

تتلقى الجمعية الفرنسية لحماية القاصرين يوميًا عشرات الاتصالات؛ للإبلاغ عن حالات فرار المراهقين والمراهقات دون إنذار أهلهم. وقد أثار نشر الإحصائيات الأخيرة حول هذه الظاهرة جدلاً واسعًا، حيث أصبح تفاقمها مصدر هلع للعائلات الفرنسية.

أسباب تفشي الظاهرة
لمعرفة أسباب تفشي هذه الظاهرة، التي تقول الإحصاءات إنها تمس بالدرجة الأولى الفتيات القاصرات، اللاتي تتراوح أعمارهن بين الثالثة والرابعة عشرة، تحدثت «سيدتي» مع الأخصائية النفسية الفرنسية «غوانئيل باسل»، التي تعمل ضمن فريق مهمته مساندة الأولياء وأقرباء المراهقين الفارين أو المفقودين بوزارة العدل والشؤون العائلية الفرنسية. عن أهم الأسباب التي تؤدي إلى هروب القاصر أو القاصرة من البيت العائلي. تقول: «إن ارتفاع نسبة الطلاق في المجتمع الفرنسي، وحالات التوتر والشجارات اليومية بين الوالدين، وانعدام الترابط الأسري، هي أهم أسباب تفاقم هذه الظاهرة». وتضيف: «عندما يكون الطفل صغيرًا عادة ما يعاني بصمت من كل هذه الظواهر السلبية التي يعيشها في محيطه العائلي. وشيئًا فشيئًا تنعكس معاناته تلك على تصرفاته، حيث تأخذ أشكالاً متعددة؛ إذ يلجأ الطفل إلى الانطواء النفسي، أو بالعكس؛ إلى التعبير عن هذه المعاناة؛ عن طريق التصرفات العدائية تجاه الآخرين، أو اللجوء إلى العنف في الشارع أو في المدرسة، أو التمرد، ورفض الرضوخ لأوامر أو مطالب الأهل، وغير ذلك. لكن عندما يصل إلى مرحلة المراهقة، قد يتم التعبير عن تلك المعاناة التي تحمّلها الطفل طوال فترة طفولته بطرق أكثر راديكالية، قد تصل إلى حد الهروب من البيت؛ انتقامًا من الوالدين، أو كمحاولة لجذب انتباههما وتخويفهما».

خطورة وسائل التواصل الاجتماعي
من جهة أخرى، تشير أحدث الدراسات الاجتماعية إلى أن المشاكل العائلية اليومية ليست دومًا الدافع أو المبرر الرئيس لظاهرة هروب القاصرين والقاصرات. وسائل التواصل الاجتماعي التي يدمنها المراهقون والمراهقات زادت من حدة تفشي هذه الظاهرة. وغالبًا ما لا ينتبه الأولياء لمدى خطورتها على أبنائهم وبناتهم، وقد كشفت لنا الأخصائية الاجتماعية «كريستال . د»، التي تخصصت منذ سنوات عدة في رصد الرسائل التي تُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، أو التي تتبادلها الفتيات عبر مختلف مواقع أو شبكات التواصل، عن تفشي ظاهرة غريبة؛ تتمثل في رسائل تتحدى من خلالها الفتيات صديقاتهن؛ لمعرفة من تستطيع أو تجرؤ على رفع التحدي بالاختفاء لمدة ثلاثة أيام، دون سابق إنذار ودون الاتصال بأي شخص من عائلتها. وتكون الرابحة من تستطيع أن تختفي طوال 72 ساعة كاملة. ولذا أطلقت على هذه اللعبة تسمية «لعبة الـ 72 ساعة»، وتستخدمها الفتيات المراهقات كمزحة لتخويف الأولياء. وتضيف الأخصائية الاجتماعية أن العديد من القاصرات كشفت لها أنهن أعجبن بهذه اللعبة، وقمن بتجربتها. فتركن البيت لمدة ثلاثة أيام دون إعطاء خبر لذويهن. وعندما عثرت الشرطة عليهن، اعترفن بأنهن تركن البيت فقط؛ ليثبتن لصديقاتهن أنهن قادرات على رفع التحدي «لعبة الـ 72 ساعة».


نظرًا لخطورة هذه الألعاب التي تروج عبر وسائل التواصل الاجتماعي على المراهقات القاصرات، غير الواعظات بأن مثل هذه الألعاب يمكن أن تؤدي إلى عواقب خطيرة على حياتهن، نشرت «الجمعية الفرنسية للحفاظ عن الأسرة والطفل» عبر موقعها الإلكتروني، تحذيرات تنبّه الفتيات وأولياء أمورهن من مخاطر الوقوع بين أيدي أشخاص منحرفين، يقومون برصد مثل هذه الرسائل أو ترويجها؛ لإحكام قبضتهم على الفتيات بعد هروبهن من البيت.
من جهتها، وجهت «المديرية العامة للأمن الداخلي» مؤخرًا تنويهًا إلى مصالح الشرطة المتخصصة في رصد مثل هذه الرسائل أو الألعاب الخطيرة، بضرورة العمل على توعية الأولياء بأهمية التنبه لما تقوم به بناتهم في غرفهن؛ من خلال الهواتف أو وسائل التواصل الاجتماعي، والتركيز على أهمية أن يتحدث الأهل مع بناتهم؛ لتوعيتهن من مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي، وأن يشرحوا لهن الفرق بين حقائق الواقع اليومي، وبين ما يروج في الواقع الافتراضي. ودعا التنويه إلى تشجيع الأولياء على الاطلاع على الرسائل التي يتبادلها الأبناء القاصرون مع الأصدقاء عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؛ لتفادي الوقوع في مثل هذه اللعب التي تشكل خطرًا حقيقيًا على حياتهم.

انعدام الشعور بالأمان
من جهة أخرى، أكدت لنا الأخصائية الاجتماعية ذاتها أن هنالك أسبابًا أخرى ليست لها علاقة بوسائل التواصل الاجتماعي، تؤدي هي الأخرى بالقاصرات إلى ترك البيت، دون سابق إنذار. وهي أسباب متعددة ومتشعبة، أغلبها ذات طابع اجتماعي ونفسي بالدرجة الأولى؛ كانعدام شعور القاصرات بأنهن في بيت آمن، من جراء ما يعايشنه من تصرفات عدوانية من قبل الأب أو الأم. ففي هذه المرحلة من العمر، تحتاج الفتاة إلى الأمان والاستقرار، خاصة أنها في سن حرجة جدًا، حيث تطرأ على جسمها تغيرات عديدة يمكن أن تحرجها أو تسبب لها مشاكل مع صديقاتها. لذا فهي بحاجة لمن يستمع إليها ويوجهها، ويجيب عن أسئلتها الكثيرة حول علاقاتها مع صديقاتها ومدرسيها. وغالبًا ما تدخل الفتاة في هذه السن في شجارات مع صديقاتها، لأسباب عاطفية أو نفسية. لذا تقول الأخصائية الاجتماعية إنها تنصح الأولياء، وبالأخص الأمهات، بالإصغاء إلى بناتهن، والاهتمام بشكاواهن، ومشاكلهن في هذه المرحلة العمرية الحرجة.

العودة إلى البيت
تؤكد آخر الدراسات أن 80% من القاصرات اللاتي يهربن من بيوت أهاليهن، يعدن إلى البيت بعد مرور أقل من 24 ساعة؛ لأنهن في سن لا تسمح لهن بالعيش وحدهن، حيث يواجهن ظروفًا صعبة تجعلهن يفضلن العودة إلى البيت. لكن الآثار النفسية لهذه التجربة تبقى عالقة في الأذهان لسنوات طويلة، مما يستحق عناية نفسية خاصة. أما الـ20% المتبقية من الحالات، فتتمثل في اللاتي يستمر اختفاؤهن لمدة طويلة، حيث تتوقف الشرطة عن البحث عنهم، وتُدرج صورهن في سجلات المفقودين. وغالبًا ما يتم العثور على جثثهن في أماكن بعيدة ومعزولة، بعد عدة أشهر من اختفائهن، وفي معظم الحالات، تكشف التحريات الطبية أنهن تعرضن للاغتصاب والاعتداء الجسدي.