أتذكر حين طلب منّا أستاذ المدرسة الإبتدائية قبل الكثير من الأعوام، أن نقوم بتجربة زراعية، وهي أن نضع حبة "عدس" في قطعة من القطن، وننتظر عدة أيام حتى تخرج نبتة صغيرة من الصحن الذي كنا نعتني فيه ليل نهار، ولكن تجربة الزراعة الأولى هذه في طولتنا، ما كادت تمر عليها عدة أيام بعد عرضها على الأستاذ حتى تموت، والآن بعد كل هذا العمر من تلك التجربة، التي مرت على معظمنا، قد نتفاجأ مما صنعه المتقاعد الأمريكي "ديفيد لاتيمر".
لاتيمر رجل أمريكي متقاعد، أجرى في العام 1960 تجربة زراعية مذهلة، بأن أنشأ حديقة داخل وعاء زجاجي يبلغ حجمه قرابة العشرة جالونات، ومنذ ذلك الحين -أي منذ 58 عاماً- لا تزال هذه الحديقة الصغيرة على قيد الحياة، تنمو وتزهر، والغريب أيضاً في هذا الموضوع، أن آخر مرة سقى لاتيمر حديقته بالماء، كانت في العام 1972، ومنذ ذلك الوقت أغلق حديقته الزجاجية بإحكام شديد، ومنذ ذلك الوقت لا تزال هذه الحديقة الفريدة، مزدهرة وخضراء.
اختار لاتيمر نوعاً من النبات الأمريكي اسمه "سبايدورت"، وأقام تجربته على فكرة قد تبدو بسيطة للغاية، إلا أنها ذكية أيضاً للغاية، حيث تأخذ هذه الحديقة الزجاجية ماءها والمواد المغذية التي تحتاجها، من خلال المواد المُعاد تدويرها من الهواء والماء والمغذيات داخل الوعاء، ولقي لاتيمر إشادة كبيرة من المختصين بمجال النباتات، لإظهاره القدرة الكبيرة للنبات على التأقلم والتكيّف مع محيطها.
هذه الحديقة الزجاجية الصغيرة، وعلى الرغم من عبقرية فكرتها، إلا أنها لم تأخذ من لاتيمر أي جهد بالرعاية فيها، حيث أنه عندما سقاها للمرة الأخيرة كما ذكرنا في العام 1972، لم يقم بأي إجراء آخر، أو عمل أي عناية خاصة بها.
إذاً كيف تبقى هذه الحديقة على قيد الحياة كل ذلك الوقت ...؟
وعن قدرة هذه الحديقة على البقاء، أوضح عدد من المختصين سابقاً آلية عملها، حيث يخلق الحيز المغلق في الوعاء الزجاجي، نظاماً بيئياً كاملاً ومنعزلاً تماماً، بعيث تتم عملية البناء الضوئي وإعادة تدوير العناصر الغذائية للنبتة، بشكل دائم ومستمر وبشكل طبيعي من خلال هذا النظام المكتفي ذاتياً، والمنعزل عن العالم الخارجي نوعاً ما، ويكفي تعريضها للضوء فقط، حتى تأخذ الطاقة اللازمة لها للنمو وصنع غذائها ومائها وهوائها.
وعبر هذه الآلية، تتمكن هذه النبتة، أو بشكل أدق، هذه الحديقة الزجاجية الصغيرة، من البقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة، فعزلتها التي صنعها لاتيمر لها من خلال هذه التجربة، خلقت لها عالماً ونظاماً خاصاً غير معتمد بشكل كامل –باستثناء الحاجة للضوء- على العالم الخارجي، وعليه قد تقودنا هذه التجربة الفريدة التي قاربت من العمر 60 عاماً، على إيجاد العديد من الحلول لمشاكل التصحر وانخفاض أعداد الأشجار بشكل واسع وكبير، ومن جهة أخرى، قد تكون إحدى الحلول في مواجهة التغيير المناخي الحاصل في الأعوام الماضية.