الروائيّة نرمين الخنسا: الكتابةُ هي مرآةُ نفسي

الروائيّة نرمين الخنسا
الروائيّة نرمين الخنسا - تصوير : ريمي الخنسا

«لكل أسلوب سرّه. والسرّ الذي قد يلمسه القارئ في قصصي ورواياتي، يكمن في شفافية المفردة، واكتناز المعنى، والتماعة الصورة، وجوى العاطفة. فأنا في كتاباتي أوصّف الدلالات الواقعية التي تحاكي العقل، وأطرّز المفردات الشاعرية التي تخاطب العقل». وأضافت، أمينة سر النادي الثقافي العربي وعضو في اللجنة الثقافية، أن «ثمة أثر بارز تعكسه المهمات الثقافية الموكلة إلى السيدات العربيات، ضمن العمل في رحاب المؤسسات الرسمية والخاصة، التي تُعنى بالشأن الثقافي، والفكري، والبحثي، والتربوي. وهناك العديد من الشواهد التي توافق قولي هذا، منها وجود نساءٍ بارزاتٍ في حقل البحث العلمي، وفي حقول الأدب والإعلام واللغة والتربية والصحة والسياسة أيضاً».
هذا ما بدأت به الكاتبة والروائية نرمين الخنسا حديثها في الحوار الآتي الذي أجرته معها «سيدتي».


بدايةً، من هي نرمين الخنسا؟


يصعب على المرء منّا، خاصة إن كان كاتباً أو روائياً، أن يقدّم نفسه للقارئ بخلاصة موجزة، ولكن سأحاول تقديم صورة شفّافة عني.

نرمين الخنسا كاتبةٌ من لبنان، عابرةٌ للطوائف، تؤمن بالحرية الشخصية، تحب الحياة، وتكره العنف. شهدت بصفتها مواطنة قبل أي شيء آخر، ما خاضه هذا البلد الحبيب من حروب وتحوّلات متعدّدة، منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين مع اندلاع الحرب المسماة أهلية، وصولاً إلى يومنا هذا. وبما أنني حملت القلم لأخط أفكاري ومشاعري ولغتي المستقاة من شواهد المآسي وموارد الخيبات اللبنانية، فقد كان الأمل رمزاً حاضراً بطريقة أو بأخرى في أعمالي القصصية والروائية، وشكّل العامل الرافد للتطلّعات الإيجابية في المقبل من الزمن. وبناء على ذاك الماضي وهذا الحاضر، أصبحت تلك الإنسانة التي تختبر الثنائيات في حياتها، ثنائية الشجن والابتسام، واليأس والصبر، والرقة والحزم، والرضا والغضب، والتعب والعطاء في آن معاً.


التطلّعاتُ الإيجابيّةُ

الروائيّة نرمين الخنسا
   الروائيّة نرمين الخنسا  - تصوير ريمي الخنسا

 

 

ما الذي حققته في هذا المجال الثقافي الواسع حتى اليوم؟


يمكنني القول إنني ما زلت في طور تحقيق أهدافي المنشودة من الخوض في الفن الروائي، وفي المعترك الثقافي على حدّ سواء.

اسمي بصفتي روائية بات معروفاً في الوطن العربي، وأصبح لي قراء ينتظرون كل جديد لي؛ نظراً إلى محبتهم لأعمالي القصصية والروائية التي بدأت بنشرها منذ باكورتي الأولى «طفولة في عهدة أفعى»، مروراً بروايات «هذيان ذاكرة»، و«ساعة مرمورة»، و«نصيبك في الجنة»، و«شخص آخر»، وأخيراً وليس آخراً، مجموعتي القصصية التي نُشرت في العراق هذا العام 2022 تحت عنوان «وهم».

هذا بالنسبة إلى كتاباتي المنشورة. أما بالنسبة إلى دوري الثقافي، فقد استقطبت من خلاله أصدقاء مهمين من داخل لبنان والبلاد العربية، خصوصاً من خلال عملي في النادي الثقافي العربي، وترؤسي لسنوات عدة اللجنة الثقافية التابعة له، وانغماسي في الإعداد للنشاطات الثقافية الشهرية التي كانت تقام في مقره في بيروت، إضافة إلى اهتمامي وانكبابي على التحضير السنوي لنشاطات النادي، وذلك ضمن فعاليات «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» الذي يحييه النادي الثقافي العربي سنوياً، منذ أكثر من ستة عقود.


برأيكِ، ما الأثر الذي ستتركه السيدة لدى توليها منصباً ثقافياً مهماً؟


ثمة أثر بارز تعكسه المهمات الثقافية الموكلة إلى السيدات العربيات، ضمن العمل في رحاب المؤسسات الرسمية والخاصة، التي تُعنى بالشأن الثقافي والفكري والبحثي والتربوي. وهناك العديد من الشواهد التي توافق قولي هذا، منها وجود نساء بارزات في حقل البحث العلمي، وفي حقول الأدب والإعلام واللغة والتربية والصحة والسياسة أيضاً. وباعتقادي أن هذا النوع من الأثر، قد أسهم في وجود نظرة إيجابية مختلفة إلى دور المرأة العربية؛ حيث شكّل هذا المنظور الإيجابي منعطفاً مهماً في الإعراب عن الامتنان والتقدير لدور السيدات في المجتمع العربي، وقد انسحب هذا المعطى الإيجابي، إلى الأجيال الناشئة التي لا تنظر اليوم إلى دور المرأة، من المنطلق الجندري، وهذه حقيقة مهمة جداً، ويُبنى عليها لمستقبل أفضل وأقوى في السياق الحضاري.

تابعي المزيد: كاتبات شابات: كيف سيفهم الناس كتاباتنا وماذا سيقولون؟


الأعمالُ الواقعيّةُ

 

 

حملت القلم لأخط أفكاري ومشاعري ولغتي المستقاة



ماذا تعني لكِ الكتابة، وما الأسلوب الذي تعتمدينه، ولماذا؟


الكتابة هي مرآة نفسي التي لا تعكس الشكل، بل تعكس الجوهر، وهي أيضاً المجهر الذي أرى به ما حولي، فأرصد انعكاسات هذا المحيط بأسلوبي الأدبي في الرويّ، وهو أسلوب واقعي يغزل من قماشة الحالات الإنسانية والاجتماعية في بلدي، ويتوسم الآمال العاطفية والاجتماعية والثقافية التي يتوق إليها المرء في حياته دوماً. وقد اخترت هذا الأسلوب في الكتابة؛ لأنه يعكس تماماً شخصيتي بصفتي إنسانة وسيدة تنظر إلى الواقع والحلم معاً، في مدار فني واختزالي هادف وشفّاف.


برأيكِ، ما أكثر الروايات تأثيراً وتأثراً بالمجتمع؟


أكثر الأعمال الروائية التي تؤثر في المجتمع، هي الأعمال الواقعية التي تصوّر معاناة المواطنين، وترصد خيباتهم ومشكلاتهم، وتحثّهم على عدم الاستغراق في التشاؤم. كما أنها تحرّك فيهم الحماسة للقيام بأدوار وطنية سلمية، في سبيل العمل على رفع الظلم ومواجهة المحسوبيات والأعمال الفاسدة في السلطة.

كذلك إن أكثر الروايات تأثيراً في المجتمعات، هي برأيي الرواية التاريخية؛ حيث إنها تقدّم للمتلقي أطراً تأريخية وحضارية وسياسية مهمة، وتكشف له أموراً وعوامل لم يكن منتبهاً إليها، أو لم يكن يعرفها لسبب من الأسباب.


من هي كاتبتكِ المفضلة، ولماذا؟


الكاتبة المفضلة والمقرّبة إلى ضميري هي الروائية اللبنانية الراحلة إملي نصر الله. وسبب تفضيلي لها، يكمن في كون أعمالها الروائية ذات أبعاد واقعية تعري بها المظاهر التنكرية للمجتمع، في العديد من أعمالها، وترافق بها أوجاع المهاجرين من قراهم ومدنهم ووطنهم، بطريقة مرهفة وذكية ووجدانية في الوقت نفسه. كما أنها لم تهمل في كتاباتها عالم الطفولة، وكان لها شأن مهم في عالم الصحافة في بدايات حياتها الثقافية والإبداعية.

وإملي نصر الله على الصعيد الشخصي، كانت إنسانة اجتماعية لبقة محبة للآخرين، متواضعة، تخلص للأصدقاء على مدى الأعوام، وقد جمعتني بها لقاءات في مناسبات ثقافية عدة، وزيارات خاصة.


من كاتبكِ المفضل، ولماذا؟


قلتها قبل ذلك في حوار سابق مع إحدى المؤسسات الصحفية، كاتبي المفضل هو الراحل الكبير نجيب محفوظ؛ ذلك لأنه أبو الواقعية الروائية في الوطن العربي بعامة، وفي مصر بخاصة، وهو فنّانها وكشّافها، استطاع أن يصور بقلمه حكايات الشارع المصري وعادات المصريين البسطاء منهم والشعبيين، وأن يصور الصراعات الاجتماعية والسياسية والطبقية والنفسية التي شهدها المصريون في أحداث ومراحل مختلفة. كما أن قلمه كشف روحانيات الحب بطريقة إسقاطية مبهرة؛ حيث كشف لنا مظاهر الخيانة والخيبة والجنوح نحو العوالم السفلى التي يلجأ فيها المهزوم إلى المخدرات، وغيرها من الأشياء المؤذية والضارة للإنسان، فقط من أجل أن ينسى الواقع الأقسى وجعاً.


نجاحاتٌ حافلةٌ لأقلامٍ نسائيّةٍ

 

الروائيّة نرمين الخنسا
     الروائيّة نرمين الخنسا - تصوير  ريمي الخنسا

 

 

 

الرواية التاريخية أكثر تأثيراً في المجتمعات؛ إذ تقدّم للمتلقي أطراً تأريخية وحضارية وسياسية مهمة




كيف تنظرين إلى الكتابة النسائية العربية في هذا العصر؟


يشهد الفن الروائي والقصصي في الوطن العربي، اليوم، نجاحاتٍ حافلةً لأقلامٍ نسائيةٍ عربيةٍ بارزةٍ، استطاعت أن تبني لنفسها شهرة واسعة، ليس على صعيد المنشأ فحسب، بل على صعيد الوطن العربي بعامة، وبعض البلدان الأجنبية التي تُعنى بمقاربة الأدب العربي المعاصر، والاطلاع عليه والتعرّف إلى تطوّر الحداثة فيه، والمحافظة على تأصُّل التراث العربي الشرقي فيه، على حدّ سواء.

وقد استطاعت هذه الأقلام أن تقدّم أعمالاً استحقّت ترجمتها إلى لغات أجنبية مختلفة. ولا شكّ في أن الكتابة المسمّاة نسائية، لم تقتصر على حقول الأدب والشعر، بل تعدّتها إلى النقد والتحقيق العلمي؛ حيث برزت في هذين الحقلين، كاتباتٌ عديداتٌ، أذكر منهن: د. وداد القاضي، ود. يمنى العيد، ود. رفيف صيداوي، ود. يسرى مقدم، ود. رضوى عاشور، وسواهن... كما برزت في الفن الروائي العربي أسماءٌ عديدةٌ في لبنان والبلاد العربية، من قبيل هدى بركات، وعلوية صبح، وأحلام مستغانمي وحنان الشيخ، وسواهن.

وقد شهدت الكتابة النسائية تطويراً لافتاً في الأعوام الأخيرة، على صعيد تقنيات الروي وأدواته، من جهة، وعلى صعيد معالجة القضايا الاجتماعية والنفسية والعاطفية والصدامية، من جهة أخرى؛ الأمر الذي يشي بحدوث نقلة نوعية أكبر في المستقبل، تحمل معها المزيد من الإبهار الفني والتمايز اللغوي والتقني والبيئي، في آن معاً.


ما الذي تسعين إلى تغييره من خلال كتاباتكِ، وما القضية الاجتماعية والإنسانية التي تولينها اهتماماً كثيراً؟


جلّ ما أصبو إليه من خلال كتاباتي، هو خروج اللبنانيين من دائرة الطائفية التي تتسبّب بين فترة زمنية وأخرى، بصدامات وكوارث في السياسة والدستور والانتخابات، وبدوام نمط العلاقات بين أبناء الوطن الواحد الذي يشوبه التخويف من الآخر والتحذير منه. ففي روايتي «ساعة مرمورة» يستشف القارئ مدى توقي إلى أن يكون المواطن اللبناني منتمياً إلى الوطن لا إلى زعيمه بالطائفة، وأن يكون تابعاً للهوية، لا للهوى الطائفي، وأن يعيش اللبنانيون عيشة خالية من حكم الفاسد، وأن ينعموا بأبسط حقوقهم المدنية التي سُلبت منهم على مدى ثلاثة عقود متواصلة.
كما أحب من حيث العادات الاجتماعية، وهذا ما يبرز في أعمالي، أن نتخلص من الصراعات الماثلة بين جيل الآباء وجيل الأبناء، وأن يكون لهذين الجيلين خطٌ حضاريٌ وحداثويٌ واحد، يجمع بينهما بشكل محفّز على النجاح والتعاضد والاحتواء السويّ.

تابعي المزيد: صورة الرّجل في الإبداع النسائي مزيجٌ من المعانقة والتفهّم وخيبات الأمل


الشخصُ الآخرُ

 

هناك نظرة إيجابية مختلفة إلى دور المرأة العربية



من الشخص الآخر (اسم رواية لكِ)، الموجود في حياتكِ، وكان له أثراً كبيراً فيكِ وساهم في نجاحكِ؟


ليس بالضرورة أن يكون في حياة الكاتبة شخص معيّن يساهم في نجاح أعمالها الأدبية ومشاريعها الثقافية، ولكن هناك ظروف تلعب هذا الدور، وقد كان للظروف دورٌ كبيرٌ في تثبيت خطواتي ومسيرة نجاحي في حقليّ الكتابة والعمل الثقافي العام. ولكن، لا شكّ في أن بعض هذه الظروف تكون مرتبطة بوجود بعض الأشخاص ضمن مدار عملهم، ومثل هؤلاء يستحقون دوماً الشكر والتقدير.


ما السرّ الذي قد يلمسه القارئ عندما يقرأ أعمالكِ الروائية والقصصية؟


جميل هذا السؤال، لكل كاتب أسلوبه، ولكل أسلوب سرّه. والسرّ الذي قد يلمسه القارئ في قصصي ورواياتي، يكمن في شفافية المفردة، واكتناز المعنى، والتماعة الصورة، وجوى العاطفة. فأنا في كتاباتي أوصّف الدلالات الواقعية التي تحاكي العقل، وأطرّز المفردات الشاعرية التي تخاطب العقل، وأستخدم التهكم الطريف في بعض مواضعه، وما أكثر هذه المواضع في المشهديات اللبنانية.


هل تغيرت الكتابة بعد عصر كورونا برأيكِ، ولماذا؟


الكتابة بما هي أدوات وتقنيات ومعالجات، لا تتغيّر في عام أو عامين أو ثلاثة أعوام. إنما تتغيّر الدلالات والتأثيرات الناتجة من هذا الحدث العالمي الذي هدّد منذ العام 2020 حياة الملايين. ما يتغيّر هو نمط النظرة إلى الحياة ومتغيّراتها، وبرأيي فإن تجربة كورونا اليوم، بما سببته للبشرية من خسارات في الأرواح والأموال والأعمال، ومن تغييرات في العادات الاجتماعية والسياحية والعائلية، ومن طفرات جينية جديدة على الأطباء؛ كل ذلك لا بدّ أن نرى له في الأعمال الروائية المستقبلية مشاهدَ وشخوصاً وأحداثاً، تعكس معاناة الحجر في البيوت، ومتاعب الدراسة أون لاين، ومساوئ العمل من المنزل، وصعوبة الحرمان من السفر. كل ذلك سيشكّل المخزون الحكائي المقبل في الروايات العربية، وكذلك في الروايات الأجنبية، طالما أنّ الحدث واحد وقد عمّ كل شعوب العالم.

عمل جديد


هل من كتب وروايات جديدة، وماذا تقولين عنها؟


لدي عمل جديد أحضّر له، ولن أكشف عنه شيئاً الآن؛ لأنه لا يزال في طور الكتابة. وأنوّه في الوقت نفسه، إلى مجموعتي القصصية «وهْم»، التي صدرت قبل أشهر قليلة في العراق، متمنية أن تكون في المرحلة المقبلة بين أيدي القرّاء والنقاد اللبنانيين، فالكاتب منّا يحرص، من دون أدنى شك، في أن يكون عمله منشوراً في بلده أولاً، ومن ثمّ يوّزع في البلاد العربية، لكنّ الظروف الاقتصادية السيئة جداً وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية انهياراً لم يسبق له مثيل في تاريخ لبنان الحديث، كلّ ذلك حال دون تحقيق هذا الأمر.

في الختام، أتمنى أن يخرج لبنان من هذا الظرف العصيب؛ كي يستعيد دوره في كل مرافق العمل، وكي يتمكّن المبدع اللبناني من مواصلة دوره الثقافي والفني والأدبي والنشري، في أقرب وقت.

تابعي المزيد: الكاتبة بشائر محمد: الرواية فن اجتماعي بامتياز!