في العاصمة اللبنانية بيروت، هناك أماكن كثيرة مهجورة، فعلى الرغم من أنها شاهدة على تاريخ المدينة خلال حقبات مختلفة، هي تقف اليوم ساكنة، وبعيدة عن مجدها الضائع، ورونقها، لا تشهد سوى على مرور الطيور فوقها وربما توقفها فيها. لذلك، رغب القيمون على WE DESIGN BEIRUT، الحدث التصميمي الأهم في لبنان، بإعادة الاعتبار لها أو التذكير بها، من خلال تحويلها إلى مواقع للمعارض والفعاليات المنظمة تحت مظلته خلال أيام انعقاده التي تختتم اليوم 26/10/2025. وفي إطار النسخة الثانية من WE DESIGN BEIRUT، يبدو موقع الحمامات الرومانية بوسط بيروت على غير حاله، فهو يعجّ بالناس المهتمين بمعرض "من الماء والحجر" Of Water & Stone، بإشراف القيمة الفنية نور عسيران، التي واكبت مجموعة من المهندسين والمصممين، لصنع "منحوتات" من الرخام، برعاية Stones by Rania Malli إحدى أكبر وأعرق شركات تصنيع الرخام في المنطقة، وبدعم من سوليدير. وقد عبرت الأعمال أو "المنحوتات" ضخمة الأحجام بمجملها، عن رؤى المهندسين للموقع الذي بقيت فيه أطلال من زمن الرومان، وعن الحمّام، وبيروت المدينة التي لا تفقد الأمل.
الحضارة الرومانية
كانت الحمامات الرومانية أمكنة دالة على العمارة الرومانية، التي تدعو إلى الاندهاش من فرط دقتها وفخامتها وجمالها؛ هناك كان الرومان ينظفون أجسادهم، إذ كان يُنظر إلى الاستحمام على أنه ممارسة وقائية وعلاجية في آن واحد، كما هم يتواصلون مع بعضهم البعض، بما يعني أن المكان كان أيضاً مركزاً اجتماعياً يجمع مختلف الطبقات للالتقاء وإجراء الأعمال والاسترخاء. وفي النظر إلى تصميم هذه الأماكن الموزعة في مدن عدة في العالم وصلتها الحضارة الرومانية، كان الرخام غالباً، إذ كانت الجدران والأرضيات والأعمدة والمنحوتات الزخرفية مغطاة بهذا الحجر الدال على الأبهة. بالتالي، كان موقع الحمامات الرومانية في وسط بيروت العائد تاريخه إلى القرن الأول الميلادي مُلهماً للمصممين الذين اشتغلوا بأنواع مختلفة من الرخام، وقدموا قطعاً متفاوتة في أحجامها تدعو الزائر إلى تأملها طويلاً.
قد يهمك الاطلاع أيضاً على: We Design Beirut: فنون النسيج بين رؤى المصممين وأيدي الحرفيين
أعمال رخامية تسترجع الماضي بصورة معاصرة
من بين المعروضات في Of Water & Stone، واحدة مميزة في مدخل الموقع، بتوقيع المهندس كارل جرجس، تحمل اسم Echoed-Thermes تستوقف الزائر بتصميمها الماهر، ودقة أبعادها، فهي عبارة عن "جاكوزي" أو حمام حراري، يمثل تجسيداً عصرياً للعلاج المائي، الذي كان جزءاً أساسياً من الثقافة الرومانية القديمة. الحوض دائري الشكل، ومصنوع من قطعة واحدة من رخام غواتيمالا الأخضر، بآلة الـCNC كما يدوياً يؤمن الراحة للاستخدام، مما يتيح الاسترخاء التام.
لناحية عمل المهندس طارق شما الضخم، الذي يحمل عنوان Nine Reflections، يبدو كجناح مكون من أجزاء عدة، مع قبة وحوض ومرايا. هناك، كان لافتاً تفاعل الزائرين مع التصميم المبني من الحجر الأملس والخشن، الذي يبدو كأنه جزء من معبد مندثر.
مشاركة المهندس ذائع الصيت جلال محمود في المعرض، متمثلة في طاولة Delos، المنحوتة من الرخام، والمستوحاة من فعل الماء التدريجي في تشكيل الحجر، إذ يعكس شكل القطعة الكبيرة الانحناءات الناعمة للحصى التي صقلتها قرون. كما يحافظ سطح الطاولة، بعروقه المعقدة وطبقاته المعدنية، على الذاكرة الجيولوجية للحجر، بينما يشع سطحه المصقول بالأناقة.
قد يهمك الاطلاع أيضاً على: We Design Beirut: بيروت بين الماضي والحاضر في أعمال 48 مصمماً في فيلّا عودة
من جانب مهندسة التصميم الداخلي ومصممة المفروشات ديانا غندور، هي أعادت صياغة مفهوم الحمام الروماني بنظرة معاصرة، إذ قدمت حوضاً للاستحمام فخماً أسمته Barrel in Blush، بلون وردي ناعم، من رخام روسو أليكانتي، وأرفقت القطعة بأكسسوارات ترتقي بتجربة الاستحمام.
من جهة ثانية، التنقيب في التاريخ هو جزء لا يتجزأ من عمل المصممين، وقد برز هذا الجانب جلياً في قطعة Editions Levantine، بعنوان Daughters of Berytus أو "بنات بيروتوس"، علماً أن بيريتوس هو اسم بيروت القديم. فقد غاص المصممون في Editions Levantine في تاريخ الموقع الأثري ببيروت، مع تسليط الضوء على 4 نساء سرن على هذه الحجارة في القرن الأول الميلادي، وهنّ: باربرا المعالجة، ومريم العروس، وثيودورا الشاعرة، ومارثا الأم، وصنعوا اكسسوارات رخامية في محاكاة لأغراض نساء بيروت زمن الرومان اليومية، كمشط، ووعاء، وقارورة...
وفي مكان آخر من الموقع، من الممكن الاستراحة على مقعد Fluvia من تصميم المهندسة سيرين الحسنية، فهو عبارة عن وحدات رخامية لافتة موزعة بطول 7 أمتار، تسمح بمرور الهواء من خلالها، وتجسد الانسيابية وإيقاع الماء.
قدم المصمم أحمد أبو زنات المقيم في نيويورك، في تصميمه الفني الرخامي مجموعة من الأبراج الحجرية بينها فتحات للسماح بدخول الهواء، استوحاها من الطريقة التي كانوا يصفون بحسبها الصابون في نابلس بعد تقطيعه حتى يجف. وجاء الجزء الثاني من التجهيز رقمياً، إذ طلب إلى الزائرين أخذ قطعة حجرية صغيرة من التجهيز مرقمة شبيهة بالصابون، مع الطلب إليهم بمسح الرمز وإدخاله على خريطة تفاعلية على موقع إلكتروني من أي مكان يسكنون فيه.
في عمل PHILIPPE DAHER FOR RAYXANDER المسمى AL WAHA، كان الشكل النحتي للقباب والأعمدة والأقواس في العصور القديمة ملهماً، إذ تبدو "المنحوتة" عبارة عن وحدات متكررة؛ 13 عمودًا تدعم 13 جزءًا من القبة، مع استحضار لفن البناء الأبلق، خلال العصرين الروماني والبيزنطي. العمل معد من رخام مايكل أنجلو، ورخام كوفي سيربيجيانتي، وقضبان معدنية ذهبية من نوع بورتورو داخل الأرجل لمزيد من المتانة.
هذا غيض من فيض المنحوتات الكثيرة الموزعة في الموقع، والتي يحتاج كلّ منها إلى صفحات لوصف إبداع الذين يقفون خلفها، فهي مرايا عن كيفية رؤية المصممين للواقع بعيون الحاضر والماضي واشتغالاتهم بمادة الرخام بصورة مدهشة يملؤهم الأمل بقيامة مدينتهم.
